مؤخرا، أعلن الجيش الأميركي تسريع العمل على تطوير دبابة المعارك الرئيسية "إم1 إيه3 أبرامز" استجابةً لتغيرات الحروب الحديثة، التي باتت تعتمد على أسراب المسيّرات والضربات الدقيقة والتكامل السيبراني والتقني.
إذ كثّف الجيش الأميركي خطواته لتطوير النسخة الجديدة من دبابته الشهيرة "أبرامز" بعدما كانت الخطط السابقة تسير بوتيرة أبطأ كثيرًا.
فمنذ بداية التسعينيات، ظلّت النسخة الحالية من دبابة المعارك الرئيسية "إم1 إيه2 أبرامز" رمزًا للقوة البرية الأميركية، لكن خليفتها الجديدة المنتظرة تسير وفق جدول زمني غير مسبوق. ففي عام 2023، ألغى الجيش خططه لمزيد من التحسينات الجزئية على دبابة "أبرامز" لصالح تصميم جديد كليا، وأعلن حينها عن تطوير النسخة الجديدة "إم1 إيه3".
دبابات القتال الأمريكية من طراز أبرامز إم1 إيه2 (M1A2 Abrams) خلال مناورات عسكرية سنوية مشتركة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة في كوريا الجنوبية، الخميس 10 ديسمبر/كانون الأول 2015 (أسوشيتد برس)
كانت التقديرات السابقة تشير إلى سبع سنوات بتكلفة 2.9 مليار دولار. ولكن وفق آخر التصريحات الأميركية الرسمية، من المقرر تسليم النموذج الأولي من دبابة "إم1 إيه3" بحلول نهاية هذا العام، لتبدأ اختبارات الاستخدام الميداني مع الجنود في العام المقبل 2026. وبعدها قد تنطلق مرحلة الإنتاج المحدود بين عامي 2027 و2028، أي قبل الموعد الأصلي المتوقع في العام 2030 أو بعده.
والهدف المطروح هنا هو تزويد القوات بقدرات متطورة بأسرع وقت ممكن، والاستفادة من ملاحظات الميدان لتحسين الأداء، بدلًا من انتظار عقد كامل للحصول على "دبابة مثالية" يتم تطوير تصميمها لسنوات، مما سيجعلها قديمة قبل دخولها الخدمة، نظرا للتحولات المتسارعة في عالم صناعة الأسلحة.
إذ كشفت الحرب الروسية الأوكرانية أن الدبابات ما زالت ذات أهمية في المعارك البرية، لكن في المقابل، فقد أبرزت التهديدات الجديدة التي تواجه هذا النوع من الأسلحة، خاصة من المسيّرات والذخائر الذكية، مما زاد من الحاجة إلى تعزيز طبقات ووسائل الحماية، وتحديث تكتيكات الحرب البرية.
لذا، يركّز تطوير الدبابة الأميركية الجديدة على حماية طاقمها، والقدرة على التعاون والتكامل مع الأنظمة الجوية غير المأهولة (المُسيّرة)، ليفرض هذا الواقع الجديد مراجعة شاملة للمفهوم التقليدي للدبابات، ويبقى الهدف النهائي هو تصميم دبابة أكثر ملاءمة لمتطلبات المعارك البرية المعاصرة.
ومن هذا المنطلق، اتجهت المؤسسة العسكرية الأميركية نحو تطوير النسخة الجديدة "إم1 إيه3" التي يُفترض أن تكون أخف وزنًا، وأذكى تقنيا، وأكثر قدرة على مواجهة الهجمات الحديثة، سعيا للحفاظ على تفوق "الدروع الغربية" في ساحة حروب تتغير ملامحها بسرعة.
تصميم جديد
في نهاية شهر يونيو/حزيران الماضي، أعلنت قيادة التعاقدات في الجيش الأميركي، بمدينة وورن بولاية ميشيغان، عن منح عقد بقيمة 150 مليون دولار لشركة جنرال دايناميكس لاند سيستمز، لتقود التطوير ضمن برنامج هندسة دبابة "أبرامز".
ويهدف العقد إلى دمج أحدث التقنيات في تصميم الدبابة الجديدة، والانتقال من تحسينات جزئية متفرقة إلى مشروع شامل لتطوير الجيل الجديد من دبابات المعارك الرئيسية للجيش الأميركي.
يتمثل أول هذه التقنيات في نظام الدفع الهجين بين الديزل والكهرباء، فبدلًا من المحرك التوربيني العامل بالغاز في النسخة الحالية، الذي يشبه محرك طائرة نفاثة مثبتًا على دبابة، ستعتمد نسخة "إم1 إيه3" على منظومة هجينة تجمع بين محرك ديزل ومولد كهربائي. يشبه الأمر الانتقال من سيارة تلتهم الوقود إلى أخرى هجينة أكثر توفيرًا.
ووفقًا لتقديرات المصممين، سيحقق النظام الجديد تحسنا في كفاءة الوقود بنسبة تقارب 40%، مما يمنح الدبابة مدى أطول وتسارعًا أفضل في ساحة المعركة. كما أنه يقلل التعقيدات اللوجستية المرافقة، إذ يتوفر وقود الديزل في معظم مناطق العمليات، ويمكن صيانة المحرك باستخدام قطع تجارية محلية، مما يخفف العبء على خطوط الإمداد.
أما التحول الثاني فيتمثل في خفض الوزن إلى نحو 60 طنًا فقط، أي أقل بنحو 7 أطنان من النسخة الحالية من الدبابة "أبرامز"، و13 طنًا من النسخة الثقيلة التي أُلغيت سابقًا عام 2023. هذا التغيير يمنح الدبابة قدرة حركة أعلى على الجسور والتضاريس اللينة، ويخفض استهلاك الوقود، كما يقلص بصمتها الحرارية والكهرومغناطيسية، مما يجعل اكتشافها واستهدافها أصعب.
تقليص عدد الطاقم
النسخة الحالية من دبابة "أبرامز" تعمل بطاقم مكوّن من أربعة أفراد: القائد الذي يوجّه الدبابة ويتخذ القرارات الميدانية وينسّق مع الوحدات الأخرى، والمسدّد المسؤول عن تحديد أهداف المدفع وإطلاق النيران، والملقّم الذي يزوّد المدفع بالقذائف ويُسهم في سرعة وتتابع الإطلاق، والسائق الذي يقود الدبابة ويتحكم في حركتها ومناوراتها على التضاريس.
أما النسخة الجديدة "إم1 إيه3" فسيتغيّر الترتيب ليصبح الطاقم ثلاثة أفراد فقط، إذ سيحلّ مكان الملقّم البشري نظام تلقيم آلي مدمج داخل برج الدبابة. حيث يعمل ذراع آلي داخل البرج على حمل القذائف وتجهيزها ووضعها في حجرة الإطلاق تحت سيطرة نظام السلاح الآلي، مما يحافظ على وتيرة إطلاق منتظمة ويقلل الحاجة للتدخل اليدوي.
باختصار، الذراع الآلية المتخصصة تحمل القذائف وتعدّها لتوضع في حجرة الإطلاق تحت إدارة نظام السلاح الآلي، وهو حل مألوف في العديد من الدبابات الحديثة مثل الدبابة الروسية المتطورة "تي-14 أرماتا"، التي تضم طاقما من ثلاثة أفراد (قائد وسائق ومسدّد) داخل الكبسولة المدرعة في هيكل الدبابة، في حين أن البرج غير مأهول وتُدار أنظمة السلاح عن بُعد، مع نظام تلقيم آلي كامل للمدفع الرئيسي.
دبابة روسية من طراز "تي-14 أرماتا" T-14 خلال العرض العسكري في الساحة الحمراء، بموسكو، روسيا، 17 يونيو/حزيران 2020 (الأوروبية)
قلة أفراد الطاقم تقلص المساحة الداخلية المتاحة، مما يسهم في تقليل أبعاد الدبابة وربما تعزيز الحماية لكل فرد عبر تصميم داخلي مضغوط ومحسّن. وستحتفظ نسخة "إم1 إيه3" بمدفعها الرئيسي عيار 120 ملم، لكن البرج سيعتمد أكثر على الأتمتة وأنظمة التحكم الرقمية.
تقنيات حديثة
يهدف تصميم النسخة الجديدة للدبابة "أبرامز" إلى توقّع التهديدات بدلًا من الاقتصار على زيادة سماكة الدروع. وستُزوَّد الدبابة بمنظومة حماية نشطة تعمل كدرع داخلي ضد القذائف والصواريخ الواردة، وقد اختبر الجيش الأميركي فعلًا على نسخ دبابات "أبرامز" الحالية منظومة "تروفي" الإسرائيلية، وتعتزم النسخة الجديدة اعتماد منظومة حماية مماثلة، رغم أن هذه الأنظمة لم تُظهر نجاحا كبيرا في الحرب التي شنها جيش الاحتلال على قطاع غزة المحاصر.
تعتمد آلية العمل في هذه المنظومات على اكتشاف التهديدات، ثم إطلاق مقذوفات مضادة أو تفعيل تشويش إلكتروني لقطع مسار التهديد أو إبطاله قبل الوصول إلى الهدف. كما تطوّرت تصاميم منظومات الحماية النشطة الحديثة بحيث تتمكّن أيضًا من مواجهة الطائرات المسيرة السريعة الحركة، وتشير التقارير الصحفية إلى نية الجيش الأميركي استخدام منظومة إسرائيلية أخرى هي "آيرون فيست"، التي من المفترض أن تدمج بين التشويش وإسقاط الصواريخ والقذائف، بما في ذلك التهديدات الصغيرة من الطائرات المسيّرة.
إلى جانب ذلك، ستُجهّز الدبابة بمحطة أسلحة عن بُعد من خلال برج صغير مزوَّد بمدفع رشاش، لمهاجمة الطائرات المسيرة أو المشاة من دون تعريض الطاقم للخطر. كما يتصوّر الجيش الأميركي قدرة النسخة الجديدة على نشر طائراتها المسيّرة، مثل مسيّرات "سويتش بليد"، لأغراض الاستطلاع والضربات التكتيكية الدقيقة.
ومن المفترض أن تعتمد دبابة "إم1 إيه3" على تصميم رقمي معياري، بدلًا من الإلكترونيات القديمة المتصلة بأسلاك وبرمجيات مغلقة، إذ ستأتي الدبابة بأنظمة قابلة للترقية السريعة والإصلاح من دون إعادة تصميم شاملة؛ كأنك تقارن بين هاتف ذكي حديث وهاتف قديم الطراز. هذا يعني سهولة تركيب مستشعرات جديدة، وتحسين أنظمة الاستهداف، وإضافة قدرات شبكية بسرعة عند الحاجة.
كما يهدف التصميم إلى تواصل أنظمة الدبابة الفرعية بسلاسة مع الطائرات المسيّرة والدبابات الأخرى وحتى المدفعية ومنظومات الدفاع الجوي على الشبكة نفسها لتنسيق الهجمات ومشاركة بيانات الاستهداف في الزمن الحقيقي. إذ إن الدرس المستفاد من ساحات القتال الحديثة، وعلى رأسها تجربة حرب أوكرانيا، هو أنه يجب انضمام الدبابة كجزء من منظومة قتال رقمي متصلة، وليست كمنصة قتالية معزولة.
دروس مستفادة من أوكرانيا
لم تأتِ هذه التحولات التقنية من فراغ، فالحرب الروسية الأوكرانية غيّرت جذريًا نظرة الجيوش إلى دور الدبابات في الحروب الحديثة. فمن جهة، أثبتت القوات الأوكرانية أن الدبابة لا تزال سلاحًا مهما بدور حيوي في المعركة. وقد قال المحلل العسكري مايكل كوفمان عن دور الدبابات في الحروب الحضرية "ما زالت الدبابات توفر أفضل توازن بين الحماية والقوة النارية والقدرة على المناورة".
لكن من جهة أخرى، كشفت الحرب هشاشة الفرضية القديمة بأن زيادة سماكة الدروع تكفي لحماية الدبابة. فالمسيّرات الرخيصة والصواريخ الموجهة حوّلت بعض المناطق المحصّنة إلى مصائد قاتلة للدبابات. وأظهرت تحليلات الاستخبارات الأميركية لحرب أوكرانيا أن نقطة الضعف الكبرى للدبابات هي هجماتها من الأعلى، حيث تستهدف الطائرات المسيّرة فتحات البرج وأجزاء المحرك المكشوفة.
وقد أكد اللواء الأميركي غلين دين أن حرب أوكرانيا كشفت عيوبًا جوهرية في تصميم الدبابات التقليدي، مع تأكيده على الحاجة إلى تعزيز حماية الطاقم بدلًا من التركيز على زيادة سماكة الفولاذ. هذا الدرس انعكس مباشرة على تصميم الدبابة الأميركية الجديدة، إذ يجري تعزيز حماية كبسولة الطاقم ضد الهجمات من الأعلى، وتزويدها بمنظومات الحماية النشطة.
ويرى الخبراء أن عصر الدبابة غير المرصودة قد انتهى، فبحسب العميد البريطاني بن باري، ينبغي أن ترافق كل دبابة طائرة مسيّرة وأدوات تشويش فعّالة لردع مسيّرات العدو. كما شدد على أهمية التنسيق بين الدبابات والمشاة ووحدات الاستطلاع والدفاعات المحمولة. وقد كشفت التجربة الروسية ضعف هذا التنسيق، إذ تُركت الدبابات من دون غطاء ميداني فكانت عرضة للكمائن وللضربات الدقيقة بالطائرات المسيّرة أو فرق الصواريخ المحمولة.
نتيجة لذلك، أصبح مفهوم "حرب المسيّرات" الأوكراني واقعًا لا يمكن تجاهله في تصميم الدبابات الحديثة. كما أشار أحد المحللين الأوروبيين إلى ضرورة الاستثمار في منظومات التشويش، ومنظومات الحماية النشطة، والدعم الجوي المساند للدروع.
ورغم كل تلك التهديدات، أثبتت الحرب أيضًا الحاجة الإستراتيجية للدبابات، فهذه الآليات الثقيلة وفّرت غطاءً حاسمًا للقوات الأوكرانية في المدن والطرق، وأظهرت أن المعارك الطويلة لا تُحسم من الجو وحده، بل تحتاج إلى قوة نارية مدرعة قادرة على اختراق الدفاعات.
