رام الله الإخباري
تغيرت حياة فاطمة أمين إلى الأبد عندما فقدت زوجها في الحرب السورية، إذ قُتل على أيدي تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في هجوم بلغم أرضي، والآن هي تعيش بقرية سورية مخصصة للنساء فقط.
وأعقبت وفاته سلسلةٌ من الأحداث أدت في النهاية إلى قدومها إلى جينوار، وهي قريةٌ شيدتها النساء ليعشن فيها، وهي ملجأ للنساء السوريات وأطفالهن الهاربين من ظلم الأهل، والإيذاء المنزلي وأهوال الحرب الأهلية، حسبما ورد في تقرير لشبكةCNN الأمريكية.
جينوار .. قرية سورية مخصصة للنساء فقط
وكلمة جينوار تعني أرض النساء في اللغة الكردية. وترحب القرية بالنساء والأطفال السوريين، بغض النظر عن الدين والعِرق والآراء السياسية.
فهي مثل لوحة فسيفسائية تضم مجموعة متنوعة من النساء اللائي يرغبن في تجربة الحرية والديمقراطية وشكل جديد من أشكال الحياة، حسب وصف التقرير.
وقالت فاطمة لشبكة CNN الأمريكية عبر الهاتف باللغة العربية: «جينوار هي الرد على كل شخص يفكر في انتهاك حرية المرأة، أو يرى أن المرأة هي الجنس الأضعف في المجتمع، أو أنها لا تستطيع إدارة حياتها أو تربية أطفالها. ب
ل العكس، يمكن أن تبني المرأة منزلها. وها نحن ذا، لقد شيدنا قرية، وهي ليست حكراً على النساء الكرديات، ولكن هناك نساء عربيات وإيزيديات وبعض من صديقاتنا الأجنبيات يعشن معنا أيضاً».وبعد وفاة زوج فاطمة في أغسطس/آب عام 2015، أثقل كاهلها عبء الترمُّل.
إذ قالت المرأة البالغة من العمر 35 عاماً، إنها ناضلت للاحتفاظ ببناتها الست بعد أن حرمتها منهن أسرة زوجها مرات عدة. فلم يريدوها أن تعمل، وطالبوها بترك وظيفتها التي أحبَّتها في حكومة كوباني المحلية والتفرغ لتربية بناتها تحت إشراف الأسرة. وتقول إنهم استضعفوها هي وبناتها، بعد أن أصبحن بلا رجل يعمل على حمايتهن.
وقالت فاطمة: «لم يُقدِّر الأشخاص المحيطون بي ذلك، ولم يتقبلوا فكرة أنني امرأة قوية أو عاملة، أو أن أربّي بناتي بعد وفاة زوجي. لقد عملت في الإدارة الكردية وكنتُ ماهرة ومتميزة في عملي».
وعندما تمكنت من استعادة بناتها بمساعدة مجموعة من الحركة النسائية الكردية، انتقلت إلى قرية جينوار، وهي قرية في شمال شرقي سوريا شيدتها النساء الكرديات من الألف إلى الياء قبل عامين.
كم عدد النساء اللاتي يعشن في القرية؟ وكيف يتعاملن مع الرجال؟
تنتصب على أرض جينوار التي تبدو جرداء وجافة منازل مستطيلة بُنية، مبنية من الطوب المصنوع يدوياً. ولكن من الداخل، كانت المنازل مطلية ومرتبة، وتُظهر لمسات الأسر التي تعيش فيها. واليوم، أصبحت قرية جينوار موطناً لـ16 امرأة و32 طفلاً.
ويُسمح للرجال بزيارة القرية في أثناء النهار شريطة أن يعاملوا النساء باحترام، ولكن لا يُسمح لهم بالمبيت. وتتناوب النساء على مراقبة الداخلين إلى جينوار والخارجين منها. إذ إنهن يحملن السلاح في أثناء النوبات الليلية فقط، لتأمين القرية.
جيان عفرين (30 عاماً)، أُمٌّ لصبي وفتاتين، يعيشون في مكان آخر مع جدهم. انتقلت عفرين إلى القرية قبل ثلاثة أشهر؛ هرباً من الهجوم التركي على عفرين، وهي مدينة في شمال غربي سوريا. وتقول إن الحياة في جينوار جميلة.
وقالت جيان: «تشعر بأن هناك مجتمعاً طبيعياً يمكنك العيش فيه. نعمل ونزرع، ونتلقى رواتب من مجلس القرية أيضاً».
وقد ذهبت بعض النساء للعيش في القرية؛ فراراً من النزوح والاغتصاب والسجن والموت على أيدي تنظيم داعش والجماعات المسلحة الأخرى. وقالت فاطمة: «في ظروف الحرب التي قاسيناها، عانت جميع النساء، وتأذين، وضِعْنَ، لكن جينوار جمعتهن».
أهلكت الحرب الأهلية التي دارت رحاها في سوريا البلاد ودمرت اقتصادها، بسبب القتال العنيف والاعتقال التعسفي واستخدام الأسلحة الكيماوية. وتسببت هذه الحرب في أسوأ أزمة للاجئين بالقرن الحادي والعشرين. وما زالت مستمرة.
النساء شيَّدن القرية بأيديهن
قبل عامين، كانت جينوار مجرد قطعة أرض مهجورة. وبعد عام من التخطيط الذي أشرفت عليه المنظمات النسائية الكردية المحلية، مثل نجمة كونغريا ومؤسسة المرأة الحرة في روجافا، بدأ البناء بالقرية عام 2017.
وتُواصل هذه المنظمات، إلى جانب المنظمات المحلية والدولية، تمويل جينوار. وافتُتحت القرية رسمياً في 25 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018.
ويوجد في جينوار مجلس تتناوب على قيادته النساء شهرياً. وقد شيّدت النساء القرية بطريقة مستدامة وصديقة للبيئة باستخدام الطوب اللبن. وشيَّدن 30 منزلاً ومتجراً ومخبزاً، حيث يبعن الخبز والمشغولات اليدوية بعضهن لبعض داخل القرية وللقرى المجاورة.
تقول نُجين ديريا، وهي ناشطة في جينوار، إن لديهن أرضاً أيضاً يرعين فيها الحيوانات ويزرعن فيها محاصيل، يبعن منها ما يفيض عن احتياجهن.
ويوجد في القرية أيضاً مستوصف للطب البديل، حيث تعمل بعض النساء المُدرَّبات، لكن ما زال ينقصهن ما يكفي من الأدوية لفتح مستشفى متكامل.
وقالت نجين إنه عندما يبلغ الأطفال الذين ينشأون في جينوار سن الرشد، سيُخَيَّرون بين الاستمرار في الإقامة بالقرية والانتقال إلى مكان آخر.
وقالت نجين إن الأولاد سيُسمح لهم بالبقاء في القرية، لأنهم نشأوا على قيم جينوار.
ووفقاً لما ذكرته نجين، يذهب الأطفال بالفعل خارج القرية، للالتحاق بالمدارس الإعدادية والثانوية، إذ إن مَدرسة القرية لا تدرِّس سوى التلاميذ من الصف الأول إلى السادس.
وبالإضافة إلى ذلك، تحضر النساء دروساً خاصة لتعلُّم اللغة الإنجليزية، وسيصبح بإمكانهن مواصلة تعليمهن بالتزامن مع نمو القرية.
القرية النسائية تقع في منطقة مضطربة
تحوم حول المنطقة المحيطة بالقرية مخاطر لا تنتهي، إذ تقع جينوار على بُعد ساعة من القامشلي، وهي مدينة على الحدود السورية التركية، والقرية معرضة لاحتمال الوقوع تحت سيطرة القوات التركية، إذا اقتحمتها.
وتركيا هي إحدى القوى التي تستقر في شمالي سوريا، وتقاتل جماعتين كرديتين تدعمهما الولايات المتحدة: قوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب. وتعتِبر تركيا أن أعضاء هاتين الجماعتين مرتبطون بحزب العمال الكردستاني، وهي جماعة انفصالية تعتبرها تركيا إرهابية (ومصنفة كجماعة إرهابية في الدول الأوروبية).
ويعود الصراع التركي الكردي إلى عقود خلت، إذ كان الأكراد يسعون إلى إقامة دولة خاصة بهم في الأجزاء التي تقطنها أغلبية كردية بتركيا وسوريا والعراق؛ وهو ما أدى إلى قمع حكومات تلك الدول تطلعاتهم السياسية.
ويشكل التدخل التركي تهديداً قوياً للمجموعات الكردية التي تهيمن على المنطقة، إذ تخطط تركيا لإنشاء منطقة عازلة على بُعد نحو 32 كيلومتراً داخل سوريا، لمحاربة القوات الكردية.
وتنظيم داعش هو التهديد الآخر الذي يسبب عدم الاستقرار. فعلى الرغم من انتهاء الحرب على داعش، يحوم الخطر المحتمل للخلايا النائمة وأنصار الدولة حول المنطقة.
تقول نجين: «الجميع يأملون ألا يحدث هذا، لأننا بنينا كثيراً من الأشياء، وأحرزنا كثيراً من التقدم، وسيكون أمراً بالغ السوء إذا أصبح الدمار مصير كل ذلك».
وتقول نجين إنه في حالة الهجوم العسكري، ستعمل القوات الكردية على حمايتهن. وقالت إن كثيراً من النساء «يرغبن في تعلُّم أساسيات الدفاع عن النفس بالأسلحة في حالة الطوارئ».
وفي الوقت نفسه، لا تمضي نساء القرية أوقاتهن في التعبير عن قلقهن إزاء الأوضاع السياسية. فهن يبذلن ما بوسعهن للحفاظ على القرية والعيش بصورة مستقلة في مكان يجمعهن.
ولكنها تتحدى الأفكار الراسخة في المجتمع السوري
تقول نساء جينوار إنهن يرغبن في تغيير فكرة أن النساء ضحايا العلاقات التي تسيطر عليها النزعة الذكورية والعنف. ويردن غرس مفهوم المرأة الحرة والمستقلة.
وعلى الرغم من أن أجزاء كثيرة من المجتمع السوري يحكمها نظام ذكوري وتقاليد صارمة، فإن الحال ليس كذلك في كل مكان، إذ تتشكل الثقافة السورية من مجموعة متنوعة من الأعراق والأديان والفئات، تضم المحافظ والمعتدل والليبرالي.
تقول فاطمة وجيان ونساء أخريات إنهن يرغبن في أن تصبح جينوار مكاناً يتحدى الأفكار المحافِظة الذكورية.
وقالت فاطمة: «جينوار هي روح الحياة وروح الطبيعة وروح المرأة الحرة. النساء هنا يُثبتن وجودهن في المجتمع بأَسره. أتمنى أن يرى العالم بأَسره جينوار بالطريقة نفسها التي نراها بها، وأتمنى أن نبني مزيداً من القرى، على غرار جينوار، في كل منطقة، حتى لا تتعرض أي امرأة للظلم».
هل هي مجرد سجن للنساء؟
وقالت فاطمة إن بعض الناس في المنطقة يعتقدون أن جينوار مثل السجن، إذ لا يُسمح للنساء بمغادرتها ولا التعامل مع الرجال وبقية المجتمع. لكنها تقول إنها مجرد قرية مسالمة تضم النساء وأطفالهن ليعيشوا في وئام.
وفاطمة أُمٌّ لستة فتيات تتراوح أعمارهن بين 5 و17 سنة. وجاءت إلى القرية منذ سبعة أشهر، وأصبحت رئيسة مجلس جينوار. وشاركت أيضاً في تنظيم حفل افتتاح جينوار.
وتذهب بعض بناتها إلى مَدرسة القرية الابتدائية، حيث يتعلم الأطفال اللغة الكردية والعربية والإنجليزية. وقالت فاطمة، التي تركت المَدرسة بعد الصف التاسع، إن بناء حياة لها ولبناتها يُشعرها بالارتياح.
وقالت فاطمة: «مستقبل بناتي هنا أيضاً. ما خططته لهن الدراسة وطريقة العيش يتحقق تدريجياً بجينوار».
وبغض النظر عن النزاع مع عائلة زوجها، لا تمنعهم فاطمة من رؤية الفتيات؛ فهي لا تريد لبناتها أن يكبرن وهن لا يعرفن عائلتهن.
ولا تزال فاطمة تحيا حياة مستقلة، على الرغم من رفض عائلة زوجها المستمر للمسار الذي اختارته لحياتها.
وقالت: «أينما أذهب سأظل أتَّكل على نفسي وسأواصل عملي، سواء تقبَّلتَني أو لم تفعل. هذه أنا، فاطمة، التي ترى نفسها قوية ولن تضعف أبداً».
عربي بوست