رام الله الإخباري
يامن نوباني:
"ما الذي لم نشاهده؟! شاهدت الشهداء الذين ارتقى بعضهم بين يدي.. الجرحى، والذين أخرجناهم إلى المستشفيات بعد أسبوع. جريح يتكئ على جريح، واستخدمنا عربات الخضرة المتروكة في الشوارع لحملهم." أجابت الطبيبة زهرة الواوي، على سؤال ماذا رأيتِ في الاجتياح؟
شاهدت قصف الطائرات والدبابات، تدمير البنية التحتية، والمباني الأثرية، والجوع، وانقطاع الكهرباء والماء والاتصالات، شاهدت 12 يوما قاسيا على نابلس وبلدتها القديمة.
ليلة الثالث من نيسان 2002، اجتاح الاحتلال مدينة نابلس، بعد أن اجتاح رام الله وقلقيلية وطولكرم وبيت لحم والخليل وجنين وسلفيت، تلك الأيام لا ينساها كل من عاصرها.
قبل اجتياح نابلس بعدة أيام، قررت سيدات رياديات في مدينة نابلس إنشاء مستشفى ميداني داخل بلدتها القديمة، استباقا لما كان يحضر له الاحتلال، من عدوان ووحشية.
مديرة المستشفى الميداني في جامع البيك، زهرة الواوي (55 عاما) خريجة رومانيا: سبقنا متطوعون من الهلال الأحمر، شباب وصبايا تواجدوا في داخل مسجد البيك في باب الساحة وسط البلدة القديمة في نابلس، في ليلة الاجتياح كنت عائدة من معالجة جرحى انفجار حدث في حارة الشيخ مسلم، اتصل بي المحافظ في وقتها، محمود العالول، وبلغني بدخول 250 دبابة اسرائيلية إلى المدينة. فعدت من منتصف الطريق صوب البلدة القديمة، خشية ألا أتمكن من العودة اليها. أول اصابة عالجناها كانت للشاب عمر عفانة، رصاصة في الكتف.
وتابعت: اثنا عشر يوما عشتها بلياليها ونهاراتها في جامع البيك، وكانت هناك نقطتا اسعاف أخريان، واحدة في ديوان آل الخياط على مدخل درج العقبة في البلدة القديمة، تابعة للخدمات العسكرية، تواجد فيها الدكتور راسم ابو ربيع، وكانت هناك نقطة في ديوان آل تفاحة بين حارة الشيخ مسلم وحارة الحبلة، وكان فيها طاقم للإغاثة الفلسطينية، تواجد فيها الدكتور توفيق غزال طبيب تخدير وطريف عاشور. وفي مستشفى جامع البيك الدكتور عبد الفتاح لبادة، والدكتور نزار الصمادي، وهما أخصائيا عظام، والممرضة ربيحة خماش (توفيت قبل عامين).
وصلتنا اكثر من 200 اصابة، وأخرجنا 13 شهيدا من أصل 94 استشهدوا في الاجتياح. لم نكن نملك إلا 17 سريرا، واقتحم الجيش المستشفى مرتين، في احداها قام بشتم الشهداء الملقاة جثامينهم على الأرض.
عن الشهداء الذين وصلوا جامع البيك، تروي الواوي: عصام الدرملي، من غزة اصيب بقذيفة دبابة في البطن، وكانت اصابته حرجة، حاولنا انقاذ حياته، لكنه استشهد بين ايدينا، وياسر الكوني، اصيب برصاصة تعمل في الجسم كالشفرة، تمزق كل ما في طريقها وكانت اصابته في الأمعاء، أجرينا له عملية وأنعشناه بطريقة يدوية، عاش ساعة ثم استشهد.. مؤيد جميل وصلني مصاب مرتين وفي المرة الثالثة عاد شهيدا.
لم يكن لدينا وحدات دم، ولا مواد طبية ضرورية، وكنا على مدار الساعة نتلقى الجرحى والشهداء ما اضطرنا الى وضع عدد من الشهداء في ثلاجات مصنع الصفا للألبان.
"رامي دروزة كنت ترى من صدره الأرض بعد اصابته بقذيفة، شاب آخر كان يعمل في القوات الخاصة كانت الرصاصة مخترقة القلب وفي جيبته مصحف صغير، احترقت أطرافه فقط. وصلني باسم الزغلول كان بحالة حرجة قال: أنا شايف زَفَتِي قدامي، مش رح تتعبوا علي، بوصيكم قولوا لأمي تزغرد، وحين جاءت أمه قلنا لها وصيته، فزغردت في المسجد" قالت الواوي.
وأضافت: "كان لدينا 13 شهيد، نقوم بلف الشهيد ونضع اسمه وتاريخ استشهاده، طلبنا اذن المحافظ لإيجاد آلية لدفنهم، قلت له: ماذا نفعل بالشهداء.. فاقترح علينا أن ندفنهم في مقبرة تحت مسجد النصر في باب الساحة، لكن الشبان قالوا لي أن المنطقة خطرة والمار فيها يجب أن يمر بلمح البصر لأن القناصة يتربصون من كل الجهات وهي منطقة مكشوفة، فقلت لهم: لا، لا نريد شهداء جدد، ولا اصابات جديدة.. سأبقي الشهداء عندي في الجامع".
وتتابع: في بستان قريب من الجامع، يفصلنا عنه قطع الشارع وبضع درجات، قررنا تحويله لمقبرة مؤقتة، حفر الشبان حفرتين، دفنا فيهم الشهداء ال13 بعمق معقول لإخراجهم بعد نهاية الاجتياح وتكريمهم بجنازات تليق بهم، أحد الشبان الذين حفروا قبور الشهداء واسمه نضال عودة، بعد دفنهم مباشرة اقتنصه الاحتلال وأصبح شهيدا. خرج به الشبان مسرعين نحو المقبرة، ولأن اصابته كانت ساخنة، ونتيجة لركض الشبان به أدى ذلك لاهتزاز بطنه وصدره فأعاده المشيعون إلى الجامع لاعتقادهم أنه حي، لكن كل علاماته الحيوية كانت تدل على استشهاده، حدقة عينيه كانت اتسعت والزبد خرج من فمه ولا يوجد فيه ضغط أو نبض، وبقي عندنا لأن الرجوع به ثانية إلى مقبرة البستان كان خطيرا جدا.
واضافة لمجهودنا الطبي كان علينا أيضا مجهود اجتماعي وأخلاقي وانساني، فاستقبلنا عائلات تهدمت بيوتها وحالات صعبة كالرضع، اضافة لعدد من الشبان الذين كان يعتقلهم الجيش ويخلي سبيلهم بعد ساعات أو أيام.
وعن العمل في ظل نقص المواد الطبية والامكانيات، تقول الواوي،: ركبنا برابيش في الصدر للإصابات في القلب والصدر، مأمون استيتية اصابة في الفك والحنك وكان فاقد للوعي، وكانت مسؤوليتنا أن نحافظ عليه وأن نبقى على تواصل معه.
بعد اسبوع من الاجتياح، وفي ظل الحصار ومنع التجوال وخطورة التواجد في الشارع، أخرجنا ما تمكنا من اخراجه من الاصابات خاصة الحرجة منها، إلى مستشفيات رفيديا والانجيلي، وكان ذلك على عاتقنا بعدما فشلت كل محاولات اخراجهم بالمفاوضات وعبر اطراف دولية، في سيارة اسعاف وعدت في نفس الليلة للمستشفى الميداني، بواسطة سيارة للصليب الأحمر.
وشاب من دار الطقطوق، كانت يده اليسار مصابة وكانت بحاجة لتصرف بسرعة، فقطعنا اليد من عند الرسغ باستخدام سكين المطبخ. أيضا القدم اليسرى للشاب هاني دبابسة كانت بحاجة لقطع، فقدمنا له ما استطعنا حتى وصوله لمستشفى رفيديا لاحقا.
كنا بحاجة ماسة لدم وجهاز تخدير ومتابعة للمريض من أكثر من متخصص، ومن الحالات الصعبة كان شاب اسمه بلال مصاب في العمود الفقري ولا يشعر بقدميه، كنت أريه ابرة المسكن حتى يُصدق أنه تلقاها فعلا.
وكالة وفا