رام الله الإخباري
أثار حكم القضاء العشائري "المنشد" غير المألوف في قضية مقتل المهندسة نفين العواودة، اهتمام الرأي العام، حول صاحب سلطة المنشد الذي فرض عقوبات وغرامات لم يسمع بها جيل اليوم، وصلت الى دفع 17 كليوغرامًا من الذهب الخالص، واكثر من 400 ناقة بيضاء وسوداء، فمن هو أبو العواصف صاحب دولة المنشد، ومن أين يستقي قراراته؟
أبو العواصف وهو ضيف الله بن نصار بن عبد العزيز أبو دهوق الجهالين وكنيته (أبو العواصف)، شيخ من قبيلة الجهالين البدوية، التي تنحدر اصولها من الجزيرة العربية وتسكن منطقة النقب وبئر السبع، هُّجر قسم من القبيلة بعد الاحتلال الاسرائيلي الى الضفة الغربية.
يعيش أبو العواصف في منطقة عناتا، شرقي القدس.
"ويشترط بقاضي المنشد أن يكون من سلالة الشيوخ في قبيلته، وان يكون قد ورثها عن اجداده، وهي أعلى سلطة بالحكم العشائري، يُلتجأ إليها لحل قضايا العرض "الشرف"، ويكون الحكم فيها مغلظا ليردع الآخرين ويرد الكرامة والعفة للضحية، واهلها، كما يقول أبو العواصف في لقاء مع صحيفة القدس المحلية .
في مضافته الواسعة في بلدة عناتا شرقي القدس، يستقبل "أبو العواصف" يوميا عشرات المواطنين المتخاصمين لفصل خلافاتهم ويستقبل في مضافته عشرات المواطنين من مختلف المحافظات، ولم يتوقف هاتفه على الرنين من قبل مواطنين يبحثون عن موعد معه، وهو ما يدل على مكانة القضاء العشائري بين أوساط المواطنين.
يقول ابو العواصف: انه ولد وتربى على القضاء العشائري، حيث كان والده قاضيًا عشائريًا وعمه وجده قضاة منشد، حيث تتلمذ على يد هؤلاء الشيوخ في بيتهم (بيت الشعر)، وكانت بداية تعليمه عندما كان يصب القهوة للضيوف، ويصغ لما يدور من حديث بمجلس والده، ومن ثم بدأ بتنمية ما حفظه وما اكتسبه من مجالس التقاضي، ومارس دور القاضي بعد وفاة والده، وحصل على شهادة الحقوق من جامعة القدس، وأصبح محامي مزاول للمهنة الى اليوم.
قبل أسابيع طلب والد نفين العواودة حكم المنشد في قضية مقتل ابنته في مدينة رام الله على يد سائق تكسي عمومي في بلدة بيرزيت، وتوجهوا الى قاضي المنشد ابو العواصف، فجمع شيوخ القبائل والقضاة العشائريين من جبل الخليل وبئر السبع، وأعلن حكمه الذي لا طعن فيه، عن دفع 17 كليوغرامًا من الذهب الخالص، ونحو 400 من الابل البيضاء والسوداء (قدر سعر الابل السوداء بـ 4000 دينار اردني) ودفع عشرات الآلاف من الدنانير مقابل كل خطوة ارتكابها الجاني، وطلب لف منزل المغدورة بالقماش الابيض، وجلب الطعام والشراب والخدم للضيوف المشاركين بجاهة الصلح التي يجب ان يتقدمها راية بيضاء ووجوه العشائر من أجل دفع الدية والغرامات لاهل المغدورة بمدينة دورا جنوب الخليل.
أنواع القضاة العشائرين
وبحسب أبو العواصف، ينقسم القضاة العشائريون الى عدة اقسام فتبدأ بقضاة الكرم، وهم قضاة عاديون يفصلون بقضايا الخلافات التي تقع على اكرام الضيف، حيث يقضون بين المتخاصمين على من يكرم الضيف، وقضاة الدرجة الاولى يفصلون بقضايا خفيفة مثل الشجارات البسيطة، وقضاة الزراع، والذين يفصلون بقضايا العمال، وقضاة الدموم، الذين يفصلون بقضايا الدم (القتل)، وقضاة العرض المنشد، ولفت الى ان رجال الاصلاح لا يعتبرون قضاة عشائر.
قاضي المنشد
يعد قاضي المشند أعلى رتبة قضائية بقانون العشيرة، حيث يفصل بقضايا خاصة بالعرض (الحرائر) وفي قضايا الدموم المستعصية، وقضايا "الوجه"( الوجه: تقع حين يلجأ رجل الى بيت ويطلب الحماية ويتم الاعتداء عليه، حينها يجلس "الوجه" الى حكم المنشد المغلظ لانه لم يقم بحمايته، واذا وقف الوجه بين طرفين متخاصمين وقال القضية بوجهي وثم قام الطرف بالاخلال والاعتداء يجلسون الى حكم المنشد).
وتمر قضايا المنشد بمراحل قبل ان تصل الى قاضي المنشد، حيث يقرر ثلاثة قضاة (يعرفون بقضاة الضراب) اذا ما كانت القضية ترتقي الى مستوى المنشد أم لا، وفي اغلب الاحيان يقر المتهم بحكم المنشد، ويأتي الى بيت المنشد مقرا ومعترفا لتجنب المخاسر المترتبة على ذلك قبل وصوله الى حكم قاضي المنشد اذا طلب الاحتكام.
الرزقة
وتابع ابو العواصف قائلا: حين تصل القضية الى قاضي المنشد، واذا ما كانت منشد "مجرد" أو منشد "رأس"، فهنا الجاني لا حجة له، لانه اعترف واقر بعطوة الاعتراف والاقرار بجريمته، ولا يحق له الدفاع عن نفسه، ومن ثم يقوم الضحية أو أهله بسرد تفاصيل ما جرى، ويقوم قاضي المنشد بالاستيضاح حول بعض النقاط، واذا ما وجد انه وجب عليها حكم المنشد يدفع اهل الجاني "الرزقة" (وهي رسوم تدفع لقاضي المنشد تبلغ من 10 الى 40 ألف دينار أردني)، واذا ما تم دفع الرزقة يعني ذلك الاقرار الكامل بما يصدر عن القاضي، ومن ثم يبدأ القاضي بتشريع الحق وعرض الحقائق وتوضيحها للحضور وغالبيتهم من وجهاء العشائر وشيوخ القبائل، ثم يقوم القاضي باصدار حكمه مستندا على احكام الشريعة الاسلامية والعرف، ويكون حكما قاسيا مغلظا، لا يمكن الاعتراض عليه، ووجب التنفيذ من خلال الكفيل، (الكفيل هو الشخص الذي يكون بمثابة الجاني، وهو مسؤول عن دفع التكاليف، لذلك يكون رجل منتقى، وقادر على السداد ودفع ما يترتب على الحكم، ولا يمكن له ان يتراجع لان ذلك يعني حدوث الفتنة).
المنشد "صيح الضحى"
وبحسب ابو العواصف فانه "يشترط بالوصول الى حكم المنشد بقضايا العرض ان تتوافر بعض الشروط، بان يقع الجرم على النساء الحرائر اللواتي يقتلن وهن يدافعن عن عرضهن أو يعتدى عليهن، لذلك لو كانت في ظروف اخرى قد تكون قضية "دليخة" (وهو القتل الغدر والخيانة وحكمها، أربع ديات)، أو تكون قضية قتل عادية وبالتالي دفع الدية كما هو متعارف عليه، لذلك كان يقال قديما أن المنشد "صيح الضحى"، أي المرأة التي كانت تصيح من أجل حماية عرضها حتى ساعات الظهيرة، لان النساء بالماضي كن يعملن حتى ساعات الظهيرة بالحقول فقط ".." ، بينما اليوم اختلفت الظروف وباتت النساء تعمل حتى ساعات الليل المتأخر، وأصبح المنشد يحميها.
منشد نفين العواودة
يقول أبو العواصف بأن نفين دخلت المنشد، من خلال ركوبها سيارة العمومي والتي هي بمثابة المنزل، وهو مكمن أمان، والقاتل اعترف بفعلته، وأهله قدموا عطوة اعتراف واقرار، وطلب على أثر ذلك والد المغدورة حكم المنشد، وبالنظر الى تفاصيل الجريمة فقد وقع عليها حكم المنشد، مضيفا ان حكمه استند الى اقرار القاتل واعتراف الاهل بجريمتهم، بالرغم بان هناك قناعات لديه بضعف رواية الاعتراف التي وصفها بفلم "هندي"، لذلك أبقى باب المنشد مفتوحا لمن يرغب بالاعتراف بالمشاركة بالجريمة لمدة 14 يوما على أن يكون شريكا بدفع تكاليف المنشد وتحت حماية عائلة وشيوخ عرب الجهالين، وبعد 14 يوما اذا ما تبين ان هناك اشخاصا آخرين شاركوا بالجريمة سيسري عليهم حكم منشد جديد وبتكاليف جديدة.
لا ثأر بالمنشد
واوضح "أبو العواصف" انه في هذه الحالة لا يحق لاهل الضحية بالثأر، لانه لا ثأر بالمنشد، واضاف: لقد جرت العادة ان تتوجه جاهة من أهل القاتل الى العائلة لطلب "الجاه" من أجل تخفيض الدفع، وبالعادة يتم تخفيض المبلغ باسم الرسول والشهداء، والاسرى، والجاهة ".." حتى يتم التوصل الى مبلغ معقول للدفع، لكن في حالة المنشد يكون قد اعطي أهل الضحية الكرامة والعفو عند المقدرة، وتمت اعادة كرامتهم وجاههم.
قوة حكم المنشد من قوة العشيرة
ويستند قاضي المنشد بفرض احكامه، من علمه، وممارسته، ومن عشيرته التي تقف خلفه وتحميه، وتحمي حكمه الصادر، كما يشير ابو العواصف، اضافة الى انه بالاردن يتم حماية هذا القرار من قبل الدولة التي تعترف بحكم القاضي العشائري.
قانون العشائر اقوى من القانون المدني
ويرى ابو العواصف الذي يمارس القضاء العشائري ومهنة المحاماة، ان هناك توجها واسعا للقضاء العشائري، فقد وصل الى مناطق لم يكن معروفا بها، فقبل 30 عاما لم يكن هناك قضاء عشائري في مناطق الشمال وقرى رام الله بينما اليوم باتت تعتمد هذه المناطق على حكم العشائر بفصل الدموم، مرجعا ذلك الى ان الحكم المدني يحتاج لوقت طويل لفصل الخلافات، واقصى عقوبة عليه بالمؤبد، لكن القانون العشائري أسرع بفصل الخلافات، ويجزي الجاني والعائلة لانها لم تقم بالتربية الصحيحة، مقابل انه يتجنب حبس الحرية (السجن) يعتمد على تخسير المال والجاه والمكانة الاجتماعية.
القدس دوت كوم