رام الله الإخباري
يكتب يوتام بيرغر، في "هآرتس" ان مصطلح "رؤيا المليون" اصبح في السنوات الاخيرة دارجا على لسان زعماء المستوطنين. كما انه يوجد بين السياسيين الرسميين الذين يتجولون في أروقة الكنيست من يتحدثون عن خيال مليون مستوطن في الضفة الغربية، كتخطيط واقعي – حتى في المستقبل القريب. ويعتقدون انه عندما سيتم ذلك، لن يعد بالإمكان رسم خريطة فيها دولتان، اسرائيلية الى جانب فلسطينية. فإخلاء واسع بهذا القدر سيصبح حلما بعيدا، حتى لو كان اليسار في السلطة.
عمليا يظهر الواقع انه اليوم، أيضا، بات من الصعب رسم خريطة كهذه، إذ أنه خلال الخمسين سنة الاخيرة طرأت تغييرات بعيدة المدى على حجم الاستيطان في المناطق المحتلة. ويتبين من فحص أجرته "هآرتس" استنادا الى معطيات مكتب الاحصاء المركزي أنه في العام 2015 كان يسكن في المناطق اكثر من 380 الف مستوطن.
وهذه المعطيات هي جزئية، لأنها لا تشمل اولئك الذين يعيشون في الاحياء الاستيطانية في شرق القدس والذي يقدر عددهم بنحو 210 الف مستوطن، حسب منشورات “معهد القدس لدراسات اسرائيل”. في كل ما يتعلق بالإخلاء المستقبلي المحتمل لأولئك الذين يتواجدون "خارج الكتل" (كما تم تعريفهم في مبادرة جنيف، ولا يشمل ذلك ارئيل)، فان الصورة هنا، ايضا، معقدة إذ يدور الحديث عن 44% من مستوطني الضفة.
لكي نفهم كيف تطور الواقع في المناطق، يجب العودة الى الايام التي تلت حرب 1967، والتي بشرت بقيام مشروع جديد – مشروع الاستيطان. ويتبين من مراجعة لخريطة العام 1968 انه ظهرت عليها منذ تلك الخريطة خمس نقاط جديدة، خلف الخط الاخضر، لم تكن مكتظة بالسكان. لقد كان حزب العمل هو الذي وقف خلفها، حيث قرر الاستيطان في مناطق الضفة، وهناك من سيقولون لأسباب امنية. مهما يكن من أمر، فان بنحاس فلرشتاين، الرئيس السابق للمجلس الاقليمي لمستوطنة "ماتيه بنيامين" ومن زعماء مجلس "ييشاع" وغوش ايمونيم، يعتقد بان المستوطنين يدينون بنسبة كبيرة لليسار. ويقوا ان "ارئيل اجتازت كل الاجراءات على يد حزب العمل"، ويذكر بمن كان مسؤولا عن تخطيط المستوطنات قبل الانقلاب السلطوي في 1977، ويقول ان "قصة عابر السامرة، تكثيف القدس، جفعات زئيف، معاليه ادوميم، بيت حورون – هذا كله من عمل حزب العمل".
ربما يكون حزب العمل هو الذي بدأ البناء في المناطق، ولكن النمو الدراماتيكي في عدد المستوطنين بدأ فقط بعد تسلم الليكود للسلطة برئاسة مناحيم بيغن. اذ انه فور انتخابات 1977، كان في الضفة 38 مستوطنة يعيش فيها 1.900 مستوطن. وبعد عقد من الزمان، في الثمانينيات، قفز عدد المستوطنين الى قرابة 50 الفا، عاشوا في اكثر من مئة مستوطنة مختلفة.
ليس عدد المستوطنات فقط هو الذي ازداد بقوة في ظل سلطة اليمين، بل طرأت ايضا تغييرات في شكلها وحجمها. "قبل صعود الليكود كانت مستوطنة مدنية واحدة فقط – هي كريات أربع"، قال لـ "هآرتس" البروفيسور هيلل كوهين، رئيس مركز "تشيريك لدراسات الصهيونية" في الجامعة العبرية. وفي السنوات التالية، يقول، بدأت تقوم مدن في أرجاء الضفة: "كانت هذه سياسة حكومية – زيادة عدد اليهود في المناطق. لقد أعدوا خططا خماسية، خططا عشرية، وتحدثوا عن كيفية الوصول الى 100 الف والى 300 الف وكيف سنصل الى نصف مليون".
ويبرز كوهين الدور الهام الذي قام به ارئيل شارون في مشروع الاستيطان في الضفة الغربية: "من ناحيته، فان المنطق الذي يقف خلف انتشار المستوطنات في المناطق كان منع امكانية اقامة دولة فلسطينية".
في هذه السنوات، منذ صعود بيغن الى السلطة وحتى 1984، دفعت الحكومة مشروع الاستيطان بكل قوتها، كما كتبت البروفيسور مريم بيليغ من جامعة ارئيل، في مقالة تحت عنوان "ايديولوجية وتصميم المنطقة في يهودا والسامرة"، والتي نشرتها في عام 2008. وحسب قولها فقد حدث "التباطؤ" مع اقامة حكومة الوحدة في منتصف الثمانينيات. ومع اقامة حكومة رابين في 1992 تقرر كبح البناء: وقف إقامة مستوطنات جديدة. ولكن في نفس الوقت كان هناك عدد غير قليل من المستوطنات القائمة، وواصل الاسرائيليون التدفق اليها.
وفي 1997، بعد سنة من تسلم بنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة، في دورته الاولى، بلغ عدد المستوطنين في الضفة نحو 150 ألف. مضت 20 سنة منذئذ، واذا كان عدد المستوطنين كبيرا منذ ذلك الوقت، فقد اصبح يقارب 400 الف اليوم، وهذا لا يشمل سكان الاحياء الاستيطانية التي اقيمت خلف الخط الاخضر في القدس. كما لا تشمل المعطيات من يقيمون في البؤر الاستيطانية التي لم تعطى تراخيص من حكومة الاحتلال. وحسب معطيات حركة "سلام الان"، توجد في الضفة الغربية 97 بؤرة، وتشير حاجيت عوفران، رئيسة فريق المتابعة للمستوطنات في الحركة، الى أنه يسكن فيها عدة آلاف من المستوطنين. ومع ذلك، وبما ان معظم البؤر ملاصقة لمستوطنات ما، من المحتمل انه يجري احصاء سكانها ضمن المستوطنات الام. (مليون مستوطن في الضفة ليس بعيدا)
طابع مختلف
مستوطنون، سكان البؤر او "شبيبة التلال"، صورة كل هؤلاء لدى الجمهور موحدة في الكثير من الحالات: ابناء المعسكر الديني – القومي. ولكن، عمليا، فإن المستوطنين خلف الخط الاخضر هم اكثر تنوعا. فالمعطيات تبين أن 100 الف من بين مستوطني الضفة في 2015 اقاموا في مستوطنات دينية قومية صرفة، بينما 164 الف في مستوطنات علمانية او مختلطة.
لكن الجمهور الذي يدين له المستوطنون بالزيادة الكبيرة في عدد السكان، هو جمهور المتدينين الأصوليين، الذين لا يجتازون في معظمهم الخط الاخضر لاعتبارات ايديولوجية بالضرورة. "هذا خليط من الضرورة وقرار من مسؤولي هذه المجتمعات"، يقول البروفيسور كوهين، ويضيف: "أزمة السكن، في بني براك وفي القدس، ايضا، ادت الى اقامة الاحياء الاصولية".
ويضيف فلرشتاين ان "الاصوليين بدأوا بحجم صغير في عمانويل، ولكن عمانويل لم تحل لهم مشكلة السكن. الاعتبار الذي عمل السكان الاصوليون وفقا له، هو القرب من المدينة التي جاءوا منها". وهكذا، مع مرور السنين، قامت مستوطنات كبرى اصولية مثل بيتار عيليت (لمن جاؤوا من القدس) وموديعين عيليت (لمن جاؤوا من بني براك). وفي المجمل العام سكن في الضفة في 2015 ما مجموعه 118 الف مستوطن في مستوطنات اصولية صرفة.
كقاعدة، لا يميز الاستيطان المديني في المناطق الاصوليين فقط. فحتى العام 2015، اقام نحو 65% من المستوطنين في مستوطنات ذات طابع مدني، بينما حدث اساس النمو في نوع السكن هذا في التسعينيات وفي سنوات الالفين الاولى. والى جانب السياسة الحكومة لتكثيف المدن، ساهمت في ذلك ايضا الهجرة، لا سيما من دول الاتحاد السوفييتي سابقا. "في ارئيل ومعاليه ادوميم تم استيعاب للمهاجرين، وكذلك في كريات أربع توجد نسبة روسية معينة"، يقول البروفيسور كوهين، ويضيف: "هناك ايضا من جاءوا الى المناطق في مرحلة لاحقة، ليس كجزء من استيعاب الهجرة، بل اناس من الطبقة الوسطى".
في هذا السياق طرحت مع مرور السنين، الكثير من الادعاءات بأن الكثير من المستوطنين في الضفة لم يصلوا الى هناك لاعتبارات ايديولوجية، وانما فقط لغرض تحسين السكن بثمن زهيد. البروفيسورة عديت زرطال، المؤرخة والباحثة في الثقافة، والتي ألفت مع عكيفا الدار كتاب "اسياد البلاد"، تعتقد بان هذا الوصف صحيح على نحو خاص لسنوات 1987 – 1997.
وتقول: "كانت هذه فترة المستوطنة الاقتصادية، وبقدر اقل بكثير من المستوطنة الايديولوجية". وتضيف: "هذا يشرح ايضا النمو في المدن – فإلى المدن يأتي الباحثون عن الشقق". وعلى حد قولها، فان مدن المستوطنات اقيمت على الارض القريبة من المراكز المدنية داخل الخط الاخضر. "مثلا معاليه ادوميم – هذه استمرار للقدس". وتقول ان "الشخص الذي يملك شقة بمساحة 50 – 60 مترا مربعا في القدس يمكنه أن يضاعفها ثلاثة اضعاف بل وأن يحصل على استرداد مالي. برأيي لعل هذا هو العنصر المركزي الذي يشرح مثل هذا النمو المكثف".
لكن بيليغ تعتقد أن هذا التفسير مبسط جدا. "أعرف ان هناك ميل للقول انه يوجد الكثير من محسني السكن. انه هذا وذاك في نفس الوقت. هناك بالتأكيد من كانوا يسكنون في بيت صغير، وانتقلوا الى بيوت اكبر، ولكن توجد نسبة كبيرة جدا ممن قاموا بخطوة معاكسة". وعلى حد قولها، فان البناء في المناطق اليوم يختلف عن ذاك الذي كان منتشرا في الماضي. "اليوم يمضون نحو بناء الطوابق، بناء شقق أصغر. ويوجد طلب هائل على ذلك".
سؤال آخر يطرح هو حول شكل المستوطنات، وطبيعة سكانها. وتقول زرطال ان "النواة الصلبة والقديمة من الايديولوجيين (بين المستوطنين الحاليين) صغيرة جدا. لا اعتقد أنها اكثر من 5%. وبالمقابل، نشأت نواة ايديولوجية من نوع مختلف – الابناء والاحفاد، وللدقة، احفاد النواة الصلبة والقديمة. هؤلاء هم رأس الحربة اليوم وهم كثيرون جدا. والضرر الذي يسببونه اكبر بكثير من معدلهم بين السكان". وعلى حد قولها فان "القدامى لم يتحدثوا ابدا باللغة التي يتحدث بها شبيبة التلال – والذين يقصدون كل كلمة. لقد عرف القدامى كيف يمارسون اللعبة السياسية والتلاعب بالجهاز السياسي. اما شبيبة التلال فلا يوجد لهم اي حديث مع هذا الجهاز، ليس لديهم اي منطق سياسي ايضا. انهم يعيشون داخل فقاعتهم التبشيرية".
وراء الجدار
أحدى التغييرات الهامة في الضفة الغربية خلال الـ 15 سنة الاخيرة، هي اقامة الجدار الفاصل. وعلى حد قول بيليغ، فقبل اقامته ساد الخوف في اوساط المستوطنين من أنه سيصد وصول سكان جدد الى المنطقة. لكنه من ناحية عملية، على حد قولها، لا يبدو أن الجدار ردع الكثيرين. "الجدار أثر بقدر هامشي جدا. فقد خفض الاسعار في زمن ما، وبعد ذلك عادت لترتفع. وفي نظرة بعيدة المدى، لا أرى شيئا بالغ الاهمية". وتتفق معها عوفران في هذا الرأي ايضا، وتقول: "احساسي هو أنه طرأ ارتفاع على عدد السكان خلف الجدار حتى بعد اقامته. لكن هذا لا يرتبط به على الاطلاق"، وتشرح ان هذا بسبب "الهدوء الذي سمح للناس بالعودة الى هذه الاماكن"، وكذلك سياسة نتنياهو في اقرار بدايات البناء خلف الخط الاخضر.
حتى لو لم يغير الجدار رغبة الاقامة خلف الخط الاخضر، فلعله اثر بقدر ما على التقسيم، اذا كان هذا لا يزال ممكنا – إذ انه يحيط من الجانب الاسرائيلي بما يسمى "الكتل"، وهي المستوطنات التي لن تكون حاجة الى اخلائها حسب مبادرة جنيف، والتي سكن فيها في 2015 نحو 214 الف مستوطن. ولغرض المقارنة، في 106 مستوطنة ستكون حاجة الى اخلائها حسب الصيغة المطروحة، يسكن نحو 170 الف نسمة.
احدى المستوطنات التي لا تشكلها مبادرة جنيف على الاطلاق، هي موديعين. إذ انها كلها تقوم في نطاق الخط الاخضر. غير أنها مع السنين اصبحت بمثابة "مركز كتلة" جديد، لمستوطنات في الضفة مثل نيلي وحشمونائيم. ويقول كوهين: "في السنوات الاخيرة تتجه حقا نحو موديعين. هذا نوع من مركز آخر".
المعطيات التي وردت في التقرير تعتمد على منشورات دائرة الاحصاء المركزية، وتم جمعها يدويا من التقارير السنوية التي تنشرها، لأن الدائرة لم تعد بتاتا قائمة مفصلة لعدد سكان المستوطنات. كما انه في سنوات الستينيات والسبعينيات، تبدو المعطيات في احصائيات الدائرة منقوصة، واحيانا يشار الى مستوطنات كبلدات اصغر من ان يتم احصاء سكانها (اقل من 50 نسمة – ولذلك تم تعدادهم مع هذا العدد)، رغم انه في الواقع يمكن ان يكون حجم بعضها اكبر من ذلك ولم يتم اجراء احصاء فيها لأسباب اخرى. كما لم تظهر في سجلات دائرة الاحصاء مستوطنات اخرى اقيمت بشكل غير قانوني.
وطن للأنباء