رام الله الإخباري
هاتف محمد يرن؛ على عجلٍ رد على المكالمة فالمتصل والدته ..”قربت أوصل الحاجز”، قالها حينما كانت نبضات قلبها مضطربة، لكنه لم يعطها الاطمئنان الذي يوقف هذا الاستشعار الداخلي “ماما .. ما ترنيش علي عشان في تفتيش”، بدأ محمد نفسه وكأنه يشعر بأمر ما، إلا أنه لم يظهر لوالدته ذلك .. “لما أصل القدس بأرن عليك “..
حين المكالمة، كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة صباحاً، كبركان يغلي من القلق كان قلب والدته، فهذه هي أول مرة يذهب فيها محمد لزيارة القدس التي يعشقها، كذلك أول مرة سيمر بها على حاجز إسرائيلي، بسرعة زحف القلق إلى قلبها
وافتعل ضجيجاً أيقظ هدوءها، لم تلتزم بما طلبه منها نجلها، وما أن مرت دقائق على تلك المحادثة، أمسكت بهاتفها وهي تحدث نفسها.. “لعله اجتاز الحاجز الآن”، اتصلت به مرة أخرى، لتتفاجأ أن الهاتف مغلق، اجتاحها سؤال مخيف: “ما سبب إغلاق هاتفه يا ترى؟” كأن شيئا باغت تفكيرها لم تكن مهيأة له.
بداية القصة، الأربعاء السابع من ديسمبر/ كانون أول 2016م، عاد الشاب محمد حرب 18 عاما بطل قصتنا، من التدريب المهني بمحافظة قلقيلية، فهو يتعلم الألمنيوم، وكان يوما عاديا على غرار جدوله الأسبوع في باقي الأيام، تناول طعام الغداء، وما أن لبث ساعة بالبيت حتى غادر إلى ورشة يذهب إليها بعد التدريب لتطبيق ما تعلمه عمليًّا بدون أجر.
وما أن تكحلت السماء باللون الأسود وأسدل الليل ستاره الداكن، كالعادة عاد محمد مساء الأربعاء إلى منزله، وبلهفة الأم لاستقبال ابنها البكر أعدت له طعام العشاء؛ “محمد”.. تنادي عليه والدته لتوصيه فغدا أول زيارة له للقدس “دير بالك على حالك يما .. ضاربين بنت على حاجز زعترة” وهذا الحاجز يقع جنوب نابلس؛ لم تنته من توصية فرحة عمرها ..”إذا حكولك اليهود ارجع وما خلوك تعدي الحاجز؛ بترجع”.. وهكذا تواصلت توصياتها..
– انتبه؛ خد رقم حدا من المسؤولين عن الرحلة، عشان تتصل عليه هناك.
“دير بالك على حالك” .. بالغت قليلاً أم محمد ( خولة حرب 54 عاما ) في توصياتها، وهي لا تدرك أنها كررتها لابنها الذي أحب مدينة القدس، ويتشوق لرؤيتها لو مرة واحدة في حياته، كانت هذه أمنيته.
في بداية الأمر، اقترحت والدته أن تخرج هي ونجلها الأصغر من محمد وهو في عمر 16 عاما إلى القدس، فقدمت تصريحاً لعمر كي تصطحبه للقدس معها وآخر قدمه محمد بنفسه ولم تعرف إن كان صدر التصريح أم رفض، كانوا يخططون بأن يجتمعوا في القدس.
ما زالوا يجلسون على طعام العشاء مساء الأربعاء، “محمد ” تكرر النداء على نجلها ..
– بنلتقي بالقدس، وإذا ملتقيناش؛ هي أغراضك بتاكل هناك بالقدس ..
“خلص ما بدي اروح عشان عمر ما طلعلوش تصريح” .. اتخذت أم محمد قرارها هذا في الاجتماع العائلي المصغر، لمناقشة الذهاب لزيارة القدس، واستقر الأمر على ذهاب محمد وحده صبيحة يوم الخميس.
في الساعة العاشرة والنصف مساء الأربعاء نفسه، وأمام سكون الأجواء في الخارج وهدوء حركة الرياح، تكاد تسمع أصوات خطوات المارة في الخارج، يجلس محمد يتصفح صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، “ماما؛ تعالي” .. ينادي على والدته ويريد أن يشاركها في الضحك، “انظري”..
– هذه صورة رجل كبير السن عمره ما يزيد عن مئة وخمس سنوات، ويجلس ابنه بجواره وعمره أربعة وثمانون عاما.
“إن شاء الله ربنا يعطيك طول العمر”.. بذات الابتسامة المتبادلة انتهى هذا المساء بدعوة الأم لابنها، ليخلد الجميع إلى النوم، وقبل أن تذهب والدته أوصاها أن تيقظه لصلاة الفجر مثل كل يوم.
المشهد الأخير
الخميس، الثامن من ديسمبر/ كانون أول، أيقظت أم محمد نجلها وما أن صلى الفجر حتى عاد ليأخذ غفوة قليلة، استعدادًا للذهاب إلى القدس، حل الصباح بعد أن أزاحت أشعة القرص الأصفر خيوط الليل السوداء، جهزت الأم أغراض ابنها بعد أن تناول طعام الفطور، من اللبنة والزعتر والتفاح.
قبَّل محمد يد والدته وقبل أن يفترق القلبان المتعلقان ببعضهما البعض نادت عليه.. “محمد” وهي تحدق بتأمل بابنها الذي أصبح شابا..
– الله يسهل عليك؛ أروح معك، أو أخدلك سيارة توصلك لحاجز زعترة ؟ ..
ما زال تفكيره بريئا وهذا ما ظهر في إجابته:
– لا؛ بوقف سيارة عن الطريق يا بمرقوني اليهود للقدس أو برجعوني ..
خرج محمد من البيت الساعة السابعة والربع صباحا، كما تحدثنا في بداية القصة حينما اتصلت عليه والدته وكانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة صباحا.
في زحمة الاحتمالات والتساؤلات، مع التوتر انشغلت به كافة أعضائها، صاحبته غليان درجة الاضطراب، اتصلت ” سلفتها ” تطمئن على أحوال والدة محمد، وبسرعة أنهت المكالمة، بدأت هواجس الشك بحدوث أمر ما تجول في خاطر أم محمد، لتعاود الاتصال بتلك المرأة لعل هناك ما تخفيه عنها، لكن سلفتها أبدت انشغالها.. “شوية وبأرجعلك”، وانقطع الاتصال.
أصبحت في حيرة من أمرها ترسم بعضا من علامات الاستفهام والتعجب تتردد في وضع نقطة في نهاية التفكير خشية أن تكون هي نقطة الفراق والوداع، فهي تدرك خطورة المكان الذي سيمر منه محمد، قامت بالاتصال على ابن اختها ويدعى ” خاطر ” لتستفسر إن كان ابنها رن عليه، الذي بدوره لا يعلم شيئا.
لم يدم انتظارها طويلا فكان الخبر معمماً على جميع وسائل الإعلام، ومنتشرا على شبكات التواصل الاجتماعي، وما أن مرت برهة من الوقت حتى اتصل بها شقيق زوجها، لتكون مع الخبر الثاني الصادم في حياتها ويخبرها أن جنود الاحتلال على حاجز زعترة جنوب نابلس أعدموا محمد.
محمد حسب رواية شهود العيان حينما وصل مكان حاجز زعترة، أوقفه جنود الاحتلال من بعيد، فرفع وثيقته الشخصية بيده، إلا أنهم قاموا بإعدامه بدم بارد بعد إطلاق النار عليه عن بعد، شاب لم يتجاوز ثمانية عشر عاما انسابت دماؤه الزكية على الأرض وترك ينزف حتى ارتقت روحه.
فمحمد الذي أحب رؤية القدس لو لمرة واحدة في حياته سعى إلى ذلك كثيرا وقدم تصاريح، لكن حاجز الموت كان أقرب من محمد.
بالعودة إلى والدته، في خضم الألم والحزن على مصابها، وبعد وقت قصير من استشهاد محمد، اتصل ضابط إسرائيلي يطلب منها أن تحضر إلى حاجز زعترة، وعلى الفور ذهبت برفقة شقيق زوجها، وحينما وصلا الحاجز دخلا على جنود الاحتلال بنفس مكان استشهاد ابنها..
– بدنا نقابل مدير الحاجز ..
رد الضابط الإسرائيلي بتعجرف:
– أرجعوا الأحد؛ فش مقابلات..
– الأمر ضروري ..
غاب الضابط دقائق وعاد ..”فش أمر، بترجعوا الأحد “، انتهى الحديث الدائر هنا، ولم يتمكنا من رؤية جثمان محمد يوم الخميس، وحينما حل الأحد عاد الضابط بالاتصال ورفضت أم محمد وشقيق زوجها الذهاب رغم أنه هددهم بالاعتقال.
قصة مع القدس
بللت الدموع نبرة صوت أم محمد لتزاحم الكلمات..
– كل ما في الأمر أن ابني أراد الصلاة في القدس فلم يدخلها في حياته؛ وكانت هذه أول محاولة.. عمره ما مر على حاجز إسرائيلي أو شاف يهود، شهود العيان قالوا لنا إن جنود الاحتلال أعدموه وهو يرفع يده وحامل الوثيقة الشخصية.
“محمد لم يأخذ أبعاداً للأمر، ولم يدرك حقيقة شخصية اليهود كان يظن أنهم من خلال وثيقته الشخصية سيقومون بإدخاله إلى القدس أو إرجاعه إلى منزله” .. قالتها وما زالت دموعها تنساب من وجنتيها.
وكأن فراق نجلها سهم انغرس في قلبها وفي غمرة الأحزان تكمل..
– سمحت له بالخروج لأني كنت مطمئنة أنه قدم التصريح عن طريق شركة، ولكن عندما استشهد اكتشفت أن التصريح لم يكن قد صدر بعد، ولكن بتفكير طفولي ظن محمد أن التصريح ربما قد صدر وأنه على وثيقته الشخصية سيجتاز حاجز الموت.
مر الأسبوع الأخير في حياة محمد بشكل روتيني، بذهابه إلى التدريب المهني مع شقيقه عمر، والعودة ظهرا ثم الذهاب إلى ورشة ألمونيوم للتدريب، وفي المساء يتناول طعام العشاء بعد أن يعود للبيت، ثم يخرج عند أبناء عمه أو ابن خالته، ويرجع الساعة العاشرة مساءً إلى منزله، فكان لا يختلط بأي أحد غريب.
صوتها بدا كجمرة أذابها قسوة الفراق المفاجئ ..
– محمد؛ فرحتي بعد أربع بنات، فرحني به الله بالدنيا وإن شاء الله سأفرح به في الآخرة، أحبه الجيران والأصدقاء، يقرأ القرآن ويحافظ على أداء الفرائض.
تعثرت كلماتها حينما استذكرت أصعب محطة أليمة في حياة العائلة قبل فراق محمد وبدأ الصوت بالانخفاض .. “توفي زوجي قبل عام وثلاثة أشهر على يد طبيب بأحد المشافي بمحافظة نابلس بعد أن كان يجري عملية عادية بقدمه، فالخطأ الطبي تسبب بنزيف حاد بأحد الشرايين “.
ما زالت تفتح دفتر الذكريات التي تزينها الدموع وهي تسرد تلك اللحظة..
– كانت العملية بسيطة؛ خرجنا في ذلك اليوم قبلها نضحك ونمزح أنا وزوجي، لكن جميع أبنائي أصيبوا بالصدمة لأن موت والدهم كان بالنسبة لهم مفاجئا ..
توقفت عن الكلام، الذي غاب بين سطور الوجع، لأن الدموع نابت عنها في إصدار أنين الجرح، بضع دقائق مرت وتلك القطرات تبلل وجنتيها كغيمة عابرة اصطدمت بصاعقة فراق الابن والزوج، لتسكب الألم في كأس المرارة.
في الرابع والعشرين من أغسطس/ آب 2015م كان قد توفي والد محمد، وكانت هذه المحطة الصعبة في حياة العائلة، نتيجة حادث سقوط من علو تعرض لها حينما كان يعمل في الداخل المحتل عام 48م قبل 23 عاما، بعد أن انزلقت قدمه من الطابق الخامس وتعرض لكسور في يده التي أجرى بها أربع عمليات، وأدخل إلى غرفة الإنعاش التي بقي فيها لمدة شهر، وهذه الحادثة منعته من العمل.
استعادت قواها بعد أن أذابت الدموع صلابة صوتها، وواصلت:
– محمد بعد والده كان رجل البيت اعتمد عليه، يحرص على صلة الأرحام لعمته وخالته، وأخواته اللاتي كان يحب الذهاب إلى بيوتهن، ويسأل عنهن إن تأخرن بزيارتنا.
“كل مواقفه جميلة؛ حينما يشعر بانزعاجي من أمر ما أو حين يتأخر عن العودة إلى البيت، يأتي ويقبلني لينال رضاي” .. تبدي فخرها بنجلها.
ثم فتحت نافذة الحنين من شرفة الذكريات والحسرة، وهي تكمل ..
– منذ ولادته وإلى يوم استشهاده عاش بأحضاني لم ينم خارج البيت يوماً، بل أنام بين عمر ومحمد في صالون البيت .. تعلقوا بي وتعلقت بهم.
ذات مرة أثناء التدريب أعطاه صاحب الورشة خمسين شيكلا، “وأنها مليون ليرة”.. هكذا تصف والدته تلك اللحظة في حياة محمد التي أفرحت قلبه.
ما تزال تتوقف عند محطة التدريب والعمل؛ حيث محمد عمل قبل التدريب في محل أثاث لمدة ثمانية أشهر وكان يحصل في الأسبوع على أجرة 100 شيكل، واشترى حينها دراجة هوائية كهربائية، كان يذهب بها إلى التدريب المهني فيما بعد ويتسوَّق للبيت.
أمنية
في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك كان ينسج محمد قصة عشق له مع القدس، صورة لمحبوبته في ليل كاهل مظلم يشع بريق قبتها الذهبية، جاورها القمر في تلك الليلة، أرفق بها نصاً.. “من أجمل ما رأت عيني.. فقط في فلسطين قمران”، هذا ما قد كتبه.
تمنى الشهادة في أكثر من مناسبة خط بها قلمه الإلكتروني، فهنا أخرج أنين حزنه..
من أين جاء الحزن ؟ وكيف جاء؟ يحمل لي في يده زنابق رائعة الشحوب يحمل لي
حقائب الدموع والبكاء على شهدائنا بدم بارد .. أين أنتم يا عرب؟ أأنتم نائمون أم ماذا؟
بعد وفاة والده حكاية كان يتمنى الشهادة ولقاء والده ولا يعلم أن موعد اللقاء اقترب وهي يخط حبر ذاكرته.
وبهذا نطوي آخر صفحة في قصة الشهيد محمد حرب من مواليد 1998م، والذي أعدمه جنود جيش الاحتلال في 8 ديسمبر/ كانون أول الجاري، على حاجز زعترة جنوب نابلس وهو من سكان مدينة قلقيلية بالضفة الغربية المحتلة، احتجزوا جثمانه بعد أن أعدمه جنوده، وأفرج عنه وشيع إلى مثواه الأخير مساء الجمعة الماضي.
يحيى اليعقوبي- صحيفة فلسطين