في أعماق قصر الرئاسة الفنزويلي المهيب، حيث تتردد أصداء الثورة البوليفارية المتآكلة، يواجه الرئيس نيكولاس مادورو الآن أكثر اللحظات رعبا في مسيرته السياسية البالغة 12 عاما.
تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتدخل العسكري المباشر لم يعد مجرد كلام عابر، بل أصبح شبحا يخيم على كل زاوية في العاصمة المضطربة، محولاً حياة الزعيم الاشتراكي إلى لعبة قط وفأر محفوفة بالمخاطر.
يغير مادورو سريره ليلاً، يتخلى عن هواتفه المحمولة بسرعة كبيرة، ويتنقل بين ملاجئ سرية لتجنب ضربة دقيقة أو غارة من القوات الأمريكية، وفق مصادر وأعين تراقبه وتنام معه.
قدرته على الصمود
هذه الإجراءات الوقائية، التي كشفت عنها مصادر صحيفة "نيويورك تايمز" تسارعت منذ سبتمبر الماضي، حين بدأت الولايات المتحدة في حشد حاملات طائراتها وسفنها الحربية في البحر الكاريبي، وشنت هجمات على قوارب بتهمة تهريب المخدرات من فنزويلا، تعكس حالة من التوتر الشديد الذي بدأ يسيطر على الدائرة الضيقة حول الرئيس.
لكن مارادو، الذي ورث السلطة من معلمه الراحل هوغو تشافيز في عام 2013، يصر على أنه لا يزال يمسك بزمام الأمور.
ويعتقد مادورو أنه "يتحكم باللعبة"، وفق ما نقلت الصحيفة عن أحد المصادر المقربة منه، مبينا أن "الزعيم يراهن على قدرته على الصمود" أمام هذا التهديد الأخير والأشد خطورة.
كوبا.. درع مادورو الأول
ولتقليل مخاطر الخيانة الداخلية، وسع مادورو مهام حراسه الجسديين الكوبيين في تشكيلة أمنه الخاص، وألحق المزيد من ضباط الاستخبارات الكوبيين بالجيش الفنزويلي، بحسب المصادر.
كوبا، الحليف الوفي الذي يقدم دعما استخباراتيا وأمنيا لا يقدر بثمن منذ سنوات، أصبحت الآن الدرع الأول لمادورو في وجه عاصفة ترامب.
هذا الإجراء الذي يشي بأن مادورو لا يثق حتى في جزء كبير من جيشه الخاص يعيد الأنظار
نحو تاريخ، كل الديكتاتوريات السابقة في أمريكا اللاتينية مثل: باتيستا في كوبا، سوموزا في نيكاراغوا، نورييغا في بنما، بعد أن سقطت بانقلاب عسكري أو بتسليم الجيش للولايات المتحدة كما يقول مراقبون.
وتؤكد الأوساط السياسية هنا أن مادورو يعرف أن أكبر خطر عليه ليس غزوا أمريكيا مباشرا من الخارج، بل أن يفتح عليه قائد كبير في الجيش الباب من الداخل.
لذلك وضع الكوبيين الذين يثق بهم أكثر بكثير من الفنزويليين أنفسهم كشبكة أمان داخلية.
ويرى محللون أن إعادة هيكلة الحزب الاشتراكي الموحد في فنزويلا تمثل خطوة استراتيجية للرئيس نيكولاس مادورو لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية في آن واحد، وإحباط أي مخططات للانقلاب.
وأكدوا أن تشكيل مكتب سياسي جديد للحزب الاشتراكي بدعم من الأمين العام ديوسدادو كابيو، المعروف بـ"الرجل الثاني" في البلاد، يشكل اتفاقا نخبويا ظرفيا لمواجهة أي خطط للانقلاب على مادورو وإحداث انقسامات داخل قيادات النظام العسكري والسياسي.
الرقص على حافة الهاوية
على السطح، يحاول مادورو رسم صورة من الهدوء المطلق، كأنه يرقص على حافة الهاوية دون أن يفقد توازنه.
يظهر مادورو فجأة في التجمعات العامة دون إعلان مسبق، يرقص على إيقاعات السامبا الشعبية، ويصور نفسه وهو يقود سيارته بنفسه، وينشر مقاطع فيديو دعائية على "تيك توك" تبعث على الضحك والثقة ويتناقلها الملايين لتزداد شعبيته ونظرات الإعجاب بشخصيته المتمردة التي تتحدى دونالد ترامب.
في خطاب ألقاه يوم الاثنين أمام آلاف المؤيدين في كاراكاس، صاح مادورو بصوته الجهوري: "الإمبريالية الأمريكية لن تمر.. نحن أقوى من أي وقت مضى".
ذعر القيادات العليا في النظام
لكن خلف هذا القناع الإعلامي، يعترف المقربون من مادورو بأن القلق ينخر في الصفوف العليا، خاصة مع تصاعد الضغوط الاقتصادية والعقوبات التي أدت إلى انهيار العملة وهروب ملايين الفنزويليين.
ويأتي هذا التصعيد في سياق أزمة مزمنة أوشكت على تفكيك فنزويلا بعد تضخم يفوق المليون في المئة خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى نقص في الغذاء والدواء، وانتخابات مثيرة للجدل في يوليو الماضي أدت إلى اتهامات بالتزوير واعتراف دولي واسع بمعارض مادورو.
ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض بسياسة "أمريكا أولاً"، لم يتردد في إثارة شبح التدخل العسكري، مشيرا إلى "الإرهاب المدعوم من فنزويلا" كذريعة محتملة.
ملحمة بقاء استثنائية؟
ومع حشد الأسطول الأمريكي قبالة السواحل، يبدو أن ساعة مادورو قد أوشكت على الاقتراب من نهايتها، أو ربما كما يأمل، مجرد فصل آخر في ملحمة بقائه الاستثنائية.
ويترقب الشعب في شوارع كاراكاس المليئة بالجدران المكسورة واللافتات البالية ما إذا كان مادورو سينجو من هذه العاصفة، أم أن ترامب سيحقق وعد "تحرير" البلاد بقوة السلاح، لكن الإجابة لا تزال تختبئ في الظلال كما يبدو، حيث يستمر الزعيم في تبديل أسرته و"أحلامه".

