لماذا تخاف إسرائيل من زهران ممداني؟

أصبح زهران ممداني أول عمدة مسلم لمدينة نيويورك، المركز المالي للولايات المتحدة الأميركية، وذلك بعد انتخابات استثنائية بكل المقاييس استطاع فيها المرشح الشاب (عن الحزب الديمقراطي) أن يتغلب على السياسي (الديمقراطي أيضا) أندرو كومو، الحاكم السابق لولاية نيويورك لمدة 11 عاما، الذي خاض الانتخابات مستقلا مستفيدا من مساندة واسعة من لوبيات المال والأعمال في المدينة، وأيضا من الدعم السياسي المعلن من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رغم الخلاف الواسع بين الرجلين اللذين سبق أن هاجما بعضهما بعضا بشراسة في أكثر من مناسبة أبرزها خلال جائحة "كوفيد-19".

لم يكن ذلك هو ملمح الاستثنائية الوحيد في هذه الانتخابات، فتلك هي المرة الأولى التي تحظى فيها نيويورك بعمدة مسلم، وقد حدث ذلك في انتخابات صوَّت فيها أكثر من مليونَيْ شخص من بين 4.7 ملايين ناخب مسجل في المدينة، وهي نسبة لم تحدث منذ عام 1969.

كانت حملة ممداني "يسارية راديكالية" في نظر الكثيرين، إذ وعد بزيادة في الضرائب على أغنى سكان المدينة، بهدف توفير الأموال لتحسين الخدمات للطبقة المتوسطة، وعلى رأسها جعل حافلات النقل العام مجانية وزيادة سرعتها بالنظر لحقيقة أن واحدا من كل 5 من سكان نيويورك يُكافح لتحمل تكلفة الأجرة المتزايدة باستمرار لوسائل النقل.

كما وعد ممداني بتجميد إيجارات الشقق التي تستهلك نسبة كبيرة من دخول العاملين في المدينة، وتعهد برفع الحد الأدنى للأجور تدريجيا إلى 30 دولارا للساعة بحلول عام 2030، علما بأن الحد الأدنى الحالي للأجور في مدينة نيويورك يبلغ 16.50 دولارا فقط، وهو رقم متدنٍّ وفق أي "مقياس معقول للمعيشة في المدينة" بحسب تعبير معهد السياسة الاقتصادية الأميركي.

بالإضافة إلى ذلك، فقد تعهد ممداني بتأسيس متاجر تابعة للمدينة توفر الأمن الغذائي لسكان المدينة، بالإضافة إلى توفير رعاية كاملة للأطفال. وبعد إعلان فوزه مباشرة، أعلن ممداني أن هذا الفوز يُمثِّل تفويضا لممارسة نوع جديد من السياسة ولإحداث التغيير الذي ينشده الناخبون.

زهران ممداني.. طوابير الغاضبين

لا عجب إذن أن فوز ممداني أزعج الكثيرين ممن يقتاتون على بقاء الأوضاع الراهنة. وبحسب وكالة "رويترز" يأتي على رأس المنزعجين أغنياء المدينة وأصحاب الشركات، إذ جعلت وعود ممداني الخاصة بزيادة الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى بعض الخبراء يترقبون نزوح الأثرياء والشركات من المدينة، وهو ما قد يؤدي إلى تعطيل وعود العمدة الجديد نفسها، إذ سيفتقر في تلك الحالة إلى الأموال التي ينتظر أن يجنيها من الضرائب على الأثرياء، هذا فضلا عن أن حاكمة ولاية نيويورك كاثي هوكول ربما تعرقل خطته تلك باعتبار أنها تنتمي إلى تيار أكثر "وسطية" في الحزب الديمقراطي، خاصة فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية.

جدير بالذكر هنا أن واحدا من أهم شعارات حملة ممداني كانت "نيويورك للجميع وليست للأثرياء فقط" و"الكرامة الاقتصادية للجميع"، وقد صرح ممداني في تجمع انتخابي في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأن هناك مليارديرات أنفقوا أموالا طائلة تُقدَّر بملايين الدولارات في هذا السباق الانتخابي، مثل بيل أكمان ورونالد لودر، من أجل منع وصوله إلى منصب العمودية، معتبرين أنه يُشكِّل تهديدا وجوديا.

وعقَّب ممداني على ذلك قائلا: "سوف أعترف بشيء، إنهم على حق. نحن نُشكِّل تهديدا وجوديا للمليارديرات الذين يعتقدون أن أموالهم قادرة على شراء ديمقراطيتنا". وبحسب تعبير مجلة "تايم" الأميركية فإن ممداني هزم جيشا من المليارديرات عندما خرج منتصرا في انتخابات عمدة مدينة نيويورك يوم الثلاثاء.

وبخلاف الأثرياء الذين أربكهم فوز ممداني، فقد أزعج انتصاره بشدة رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب نفسه، الذي وجّه إليه ممداني خطابه مباشرة بعد فوزه قائلا: "أعلم أنك تشاهد.. ارفع الصوت".

وفي المقابل، وصف ترامب العمدة المنتخب بأنه يتبنَّى "خطابا غاضبا"، مشيرا إلى أن عليه أن "يُبدي احتراما أكبر لواشنطن إذا أراد أن ينجح". كما اتهم ترامب ممداني أنه يتبنَّى "أجندة شيوعية"، مُدعيا أن الولايات المتحدة "خسرت جزءا من سيادتها في نيويورك"، وأن الانتخابات "جرت بطرق غير نزيهة".

وبصورة أوسع، يُعد اتهام "الشيوعية" إحدى المقولات المتكررة في خطاب ترامب تجاه ممداني، إلى درجة أنه هدد بقطع التمويل الفيدرالي للمدينة "باستثناء الحد الأدنى المطلوب"، في محاولة لإثناء المواطنين عن انتخابه.

في ضوء ذلك، لا يُعد فوز ممداني، الذي وصفه السيناتور بيرني ساندرز بأنه إحدى أعظم المفاجآت السياسية في التاريخ الأميركي الحديث، معتبرا أن ممداني أصبح بالفعل واحدا من زعماء الحزب الديمقراطي، لا يُعد فوزا عاديا بأي حال، فقد جاء ليعكس تغيرات عميقة في السياسة الأميركية، وربما تمتد أصداؤه إلى خارج الولايات المتحدة.

لقد كان هذا الفوز إيذانا بعودة السياسيين اليساريين لوضع الاقتصاد وهموم الفقراء في صدارة الأولويات، بعد أن كان الخطاب اليساري في الغرب قد انهمك تماما في قضايا "الحريات والهويات الجنسية"، مع نسيان وتجاهل واضح للمشكلات الأكبر التي يواجهها المواطنون الأقل حظًّا، وهو التجاهل الذي تسبب في تعميق الفجوة بين الخطاب اليساري والجماهير.

وعلى جانب آخر، فإن هذا الفوز في مدينة بحجم نيويورك جاء أيضا ليشير إلى حقيقة أن الجماهير ربما أصبحت تتوق إلى خطاب آخر مختلف عن الخطاب اليميني الذي صعد بقوة كبيرة في السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة خاصة، وفي الغرب عموما.

وأخيرا، ربما يعكس هذا النصر حقيقة أن الجماهير في العالم الغربي باتت تحمل رؤى مختلفة بشدة عن النخبة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي. فالواقع أن مواقف ممداني المؤيدة لفلسطين والمعادية لدولة الاحتلال كانت لتصبح عقبة لا يمكن تجاوزها في طريق فوزه في سنوات ماضية، لكن هذه المرة كان هذا الموقف من أهم أسباب نجاح ممداني في مدينة تُعد أكبر معقل لليهود في العالم خارج إسرائيل.