"الاعتقال الوقائي" ضرورة أمنية أم انتهاكات حقوقية؟

f5ee7bf9-df49-4755-baff-bce8052b25e6.jpeg

كنت أجهّز للكتابة عن زيارة الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، لكن مكالمة مع صديق من الضفة الغربية، أثار حفيظتي بعد أن اعتقل جهاز الأمن الوقائي أخيه بذريعة ما يسمى "الاعتقال الوقائي"، أقنعني بالعدول عن الفكرة، والعودة إلى الغرق في وحل الانقسام الفلسطيني، ولأن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة"، فكيف يمكن تفسير أن يعتقل الفلسطيني فلسطينيا، فليعطني جميع خبراء البلاغة واللغة لإقناع تلك العائلة بأن ابنهم اعتقل من أجل الوطن وحتى لا يتم تكرار سيناريو غزة في الضفة الغربية..!

هناك في الضفة الغربية، وبعيدا عن عيون الإعلام، تتزايد ظاهرة الاعتقال الوقائي، وهي ممارسة أمنية تلجأ إليها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، خاصة جهاز الأمن الوقائي والمخابرات العامة، باحتجاز أفراد يُشتبه في احتمال تنفيذهم لعمليات مسلحة ضد أهداف إسرائيلية أو فلسطينية، دون توجيه تهم رسمية أو عرضهم على محاكم عادلة، حتى يتم تصنيفهم باعتبارهم "مهددين أمنيا"، وغالبا ما يكونون شبّانًا ناشطين في الفصائل المسلحة الفلسطينية.

لكن المبكي المضحك في الآن ذاته، أن العديد من المعتقلين لم يرتكبوا أي فعل عنيف حتى لحظة اعتقالهم، بينما تُبنى قرارات احتجازهم على "معلومات استخبارية" تفيد بأنهم ينوون تنفيذ عمليات مستقبلية، ومن المفارقات أن كثيرًا من هؤلاء المعتقلين لا يواجهون تهمًا رسمية، ولا يخضعون لمحاكمة عادلة، بل يُحتجزون لفترات طويلة بناءً على تقدير الأجهزة الأمنية، التي تمتلك صلاحية تنفيذ هذه الاعتقالات بموجب صلاحيات استثنائية مستندة إلى حالة "الضرورة الأمنية"، ويجري توقيف الأفراد بناء على تعليمات مباشرة من الجهات العليا في المؤسسة الأمنية، دون إشراف قضائي مستقل.

الحقيقة، هو أن هناك اعتقالات بالجملة تتم خارج القانون ودون وجود جريمة منصوص عليها، والتهمة تحمل قدرا كبيرا من استغباء الشعب بأن المعتقلين ينوون بالقيام بعمليات مسلحة، ضد عدونا كلنا "إسرائيل"؛ لسبب بسيط هو أن الحياة لم تعد تطاق في ظل استمرار همجية الاحتلال في الضفة بموازاة غزة، فلو قيل ذلك عن منفذي عمليات ضد أماكن حكومية فلسطينية أو مؤسسات وطنية لكان يمكن فهمه، لكن في الضفة هذا بعيد عن المنطق وتحتاج الأجهزة الأمنية إلى جهود جبارة لإقناعنا بذلك، وأراهن أنها ستفشل.

أما المدة، فلا يحددها قانون واضح، بل تتفاوت بحسب "مدى استمرار التهديد" المزعوم، في حالات كثيرة، يمتد "الاعتقال الوقائي" من بضعة أشهر إلى أكثر من سنة، وأحيانا يتم الإفراج عن المعتقلين ثم إعادة احتجازهم لاحقًا في ظروف مشابهة، فيما يُعرف بظاهرة "الاعتقال الدوّار"، دون أي اعتبار للقانون الأساسي الفلسطيني الذي ينص على ضرورة احترام الحقوق الأساسية، مثل الحق في المحاكمة العادلة، والاحتجاز القانوني، وعدم التعذيب.

للأسف هذه النصوص تبقى حبرا على ورق في حالات الاعتقال الوقائي، حيث أنه نادرًا ما يُسمح للمعتقل بمقابلة محامٍ، وغالبًا ما يتعرض لتحقيق قاسٍ في الأيام الأولى من احتجازه، أما المحاكم فلا تُشكّل رادعًا حقيقيًا للأجهزة الأمنية، بل كثيرًا ما تُستخدم لتبرير الإجراءات الأمنية بعد وقوعها، ألهذه الدرجة وصلنا من قمع الحريات؟ أليس المواطن الفلسطيني انسان له حقوق؟

وفي مفارقة مؤلمة، يجد بعض النشطاء الفلسطينيين أن السجن في إسرائيل قد يكون أقل ظلمًا من السجن "الوقائي" في سجون السلطة. فعلى الرغم من قسوة السجون الإسرائيلية، فإنها تُخضع المعتقل لمحاكمة -حتى وإن كانت عسكرية- ويُحدد فيها الحكم بناء على التهمة، وبعض الأفراد المحتجزين لدى السلطة بسبب نيتهم تنفيذ عمليات، لم يتورطوا فعليًا في أي هجوم، وهم يعلمون أنه لو سلّموا أنفسهم لإسرائيل، فلن يُحكم عليهم سوى ببضعة أشهر، بتهم حيازة سلاح أو محاولة تنفيذ هجوم غير مكتمل، فأي نظام سياسي فلسطيني هذا الذي يبشّرنا به قادته؟

الناس تعبّر عن نفسها في أي مكان اعلامي أو في صفحات التواصل الاجتماعي وفي المنتديات، وهذا أدنى حق من حقوقها طبعا، ليتكلموا عن أن أبنائهم يبقون في سجون السلطة لفترات أطول من اسرائيل، ودون محاكمة، فقط بحجة منعهم من تنفيذ هجوم قد لا يقع، بحيث أن السجين في إسرائيل يعرف متى تبدأ ومتى تنتهي محكوميته، أما في سجون السلطة، فأنت لا تعرف لماذا أنت هناك، ولا متى ستخرج، فهل تبقى شرعية لنظام سياسي ليقوم بحملات اعتقال بناء على النوايا؟ أي ظلم هذا الذي يعيشه شعبنا؟

الحقيقة التي يجب ألا يختلف عليها أحد معي، هي أن هذا المقال لا يهدف إلى تبرئة الاحتلال أو التهوين من دور إسرائيل في قمع الفلسطينيين، لكن المقارنة تسلط الضوء على الخلل الخطير في عمل المنظومة الأمنية الفلسطينية التي تُفترض أن تكون حامية للمواطنين، لا سجّانةً لهم باسم "الوقاية"، لكنها تتجاوز حدود الضرورة الأمنية لتتحول إلى أداة سياسية وأمنية لقمع المعارضة وضبط الشارع، في ظل غياب رقابة قضائية حقيقية وإصلاح عميق في منظومة العدالة، ستبقى هذه الظاهرة وصمة على جبين النظام السياسي الفلسطيني.

إن من حق الإنسان في كل مكان، وفي أي زمان، وأيا كانت جنسيته وجنسه، ومذهبه وعرقه، ولغته ولونه، أن يتمتع بالحرية. هذا حقه، يولد معه، ويرافقه حتى وفاته، لذلك نحتاج إلى نموذج يحمي حقوق وكرامة الأبناء والأمهات الفلسطينيات، لا النموذج الذي يجعل المواطن أرخص ما نملك وينتزع الأبناء من أحضان أمهاتهم بتهم لا تندرج إلا في إطار المعارضة الطبيعية، فيا سادة، وفّروا دموع الأمهات لحروب قادمة، فالإسرائيلي وحروبه المجنونة يتكفل بها، فهل يعي العقل الفلسطيني أم سنستمر حتى نصبح هنود حمر التاريخ الجدد؟