علاء مطر
"القفز نحو المجهول"..هذا المصطلح أو العنوان سمعته أثناء عملي الصحفي من كثير من رجالات تلك المرحلة حينما كنا صحفيين صغار، لكنه جاء في بالي مباشرة بعدما أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "بالون" تجهير أهالي قطاع غزة الى عدد من الدول العربية، وهو أمر مستحيل تنفيذه للكثير من الأسباب، فالفلسطيني مستعد أن يموت في أرضه دون الهجرة، وهو ما أثبته عودة الفلسطينيين الى شمال قطاع غزة فور السماح لهم بذلك، رغم أن الشمال مدمر بشكل لا يمكن وصفه.
اذن حديث ترامب عن تهجير أهالي قطاع غزة وترحيب نتنياهو ويمينه المتطرف لم يكن سوى "قفز نحو المجهول"، فهم يعلمون علم اليقين ان أي رئيس دولة عربية لن يسمح بأن يكتب التاريخ بأنه ساعد في تهجير الفلسطينيين من أرضهم، والدول الأوروبية التي تؤيد أغلبها إقامة دولة فلسطينية على حدود الـ67 لن تسمح بالأمر ذاته، والفلسطيني نفسه لن يوافق على الأمر، إذن الخطة فاشلة منذ نشأتها.
اما فيما يتعلق بالقيادة الفلسطينية، وقادة الفصائل، فإنهم لا يزالون يمارسون "القفز في الهواء" وهو الأمر الذي يجيده هواة المغامرة في الأفلام السينمائية، وهو أمر محزن بالمناسبة لأي مواطن صغير، فكيف بقيادة تضع شعبها وقضيتها في مغامرة القفز في المجهول .
إن ما كشفه المحلل الإسرائيلي إيلي نيسان، عن خطة إسرائيلية لتهجير سكان قطاع غزة، والسماح بتسهيلات برية وبحرية وجوية لتيسير عملية النزوح، دون أن يكون لمصر أو الأردن دور في ذلك، واستعداد دولة ثالثة لاستقبال المهجّرين، لم يكن مفاجئا بالمناسبة.
هذا التصريح، رغم كونه غير رسمي، يتماشى مع التسريبات والتصريحات التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين سابقًا حول نية الاحتلال استغلال الحرب في غزة لإحداث تغيير ديمغرافي جذري في القطاع، عبر التهجير القسري الجماعي، بما يهدد مستقبل القضية الفلسطينية برمّتها.
والحقيقة أن إسرائيل تسعى من خلال هذا المخطط إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية، منها: تفريغ قطاع غزة من سكانه: يهدف الاحتلال إلى تقليل الكثافة السكانية الفلسطينية في القطاع، ما يسهل إحكام السيطرة عليه مستقبلاً، وإضعاف القضية الفلسطينية، بحيث يتم تغيير الواقع الديمغرافي والسياسي، ما يضعف مطالب الفلسطينيين بإقامة دولتهم، والقضاء على أي تهديد مستقبلي، وخاصة من قبل غزة التي تعتبرها إسرائيل قاعدة لنشاط المقاومة، وبالتالي، ترى أن الحل الأمثل هو تفكيك بنيتها السكانية والمجتمعية لمنع عودة أي تهديد أمني، بالإضافة إلى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة.
بطبيعتها، تدرك السلطة الفلسطينية خطورة هذا المخطط، وتخشى أن يؤدي إلى تغيير جذري في القضية الفلسطينية. لذلك، يمكن للسلطة، باعتبارها الممثل الشرعي والمعترف به دوليًا، العمل على المستويات السياسية والدبلوماسية لمنع تنفيذ التهجير القسري، من خلال، تفعيل الدور العربي والدولي، عبر طلب عقد جلسات في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث القضية، وممارسة الضغوط على الدول التي قد تكون مستعدة لاستقبال الفلسطينيين لرفض ذلك.
كما تسعى السلطة إلى تعزيز التنسيق مع الدول العربية خاصة مصر والأردن، لمنع استخدام أراضيهما كممر لتهجير سكان غزة، ما يعرقل المخطط الإسرائيلي، بالإضافة الى تصعيد التحركات القانونية: من خلال تقديم دعاوى في المحكمة الجنائية الدولية ضد أي إجراءات إسرائيلية تستهدف تهجير السكان، باعتبارها جرائم حرب.
أما بالنسبة لحركة حماس، فإنها منذ هجوم 7 أكتوبر، وجدت نفسها في مواجهة غير مسبوقة مع إسرائيل، التي توظف الحرب لتفكيك جناحها العسكري وتقليص نفوذها السياسي. وبعد أكثر من 500 يوم من المواجهة، يواجه التنظيم خيارات مصيرية، في ظل تزايد الضغوط الإقليمية والدولية المطالبة بترتيب جديد للحكم في غزة.
لكن الأزمة لا تتعلق فقط بحماس، بل بالوضع الفلسطيني ككل. استمرار الانقسام بين فتح وحماس يخدم الاحتلال، ويضعف الموقف الفلسطيني، ما يجعل إعادة توحيد الصفوف ضرورة قصوى لمواجهة التحديات الراهنة.
في ظل التحديات القائمة، قد يكون تسليم إدارة غزة للسلطة الفلسطينية، تحت إشراف عربي، الخيار الوحيد القادر على إنقاذ القطاع من سيناريو التهجير. هذه الخطوة قد تواجه عقبات داخلية وخارجية، لكنها قد تكون الحل العملي الوحيد لمواجهة المخطط الإسرائيلي.
ما كشفه المحلل الإسرائيلي ليس مجرد تصريح عابر، بل مؤشر على مخطط خطير يستهدف جوهر القضية الفلسطينية. التصدي لهذا المخطط يتطلب موقفًا فلسطينيًا موحدًا، وحراكًا دبلوماسيًا واسعًا، وإدراكًا بأن استمرار الانقسام يصب في مصلحة الاحتلال وحده. غزة تقف على مفترق طرق، وأي تأخير في التحرك قد يجعل تنفيذ المخطط الإسرائيلي أمرًا واقعًا لا رجعة فيه.