علاء مطر
منذ اللحظة الأولى لبدء ظهور المجموعات العسكرية المسلحة في جنين وطولكرم ونابلس بالضفة الغربية، أدركت السلطة الفلسطينية خطورة هذا الأمر، فهي ترفض العمل العسكري وتنتهج مسار المفاوضات مع اسرائيل، حفاظا على دماء الشعب الفلسطيني، واعترافا منها بحقيقة وحشية إسرائيل وأن الشعب الفلسطيني الأعزل ليس بمقدوره تحدي أقوى جيش في الشرق الأوسط، فاليد لا تواجه المخراز، وهو ما كانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي المدعومتان من ايران، تنتقدانه باستمرار وتتمسكان بقرارهما بأن العمل العسكري هو وحده من سينهي الاحتلال الإسرائيلي، غير آبهين بما ستؤول اليه الأمور في طوفانهم الأخير بغزة، حيث القتل والدمار الهائل وغير المسبوق في تاريخ البشرية كلها، حتى أدرك الجميع مؤخرا أن نهج السلطة كان أكثر وعيا من نهج بعض قياداتها المهووسون بالقتل والدماء.
أتحدث حول هذا الموضوع، بعد الأحداث المؤسفة الأخيرة في مخيم جنين، حيث تشن الأجهزة الأمنية الفلسطينية حملة ضد بعض المسلحين الذين يحاولون خلق حالة من الفوضى بدعم خارجي من ايران خصوصا، غير أن السلطة الفلسطينية كانت أكثر وعيا منهم وتعي ما يدور خلف الكواليس من مؤامرات ولعب بعقول الناس هناك، وتدرك تماماً أن هناك أطرافًا خارجية قد تستغل الأوضاع للتأثير على استقرار الضفة الغربية، بهدف تحويل الأنظار أو خلق حالة من الفوضى.
الهدف من هذه المحاولات يمكن أن يكون هو هدف الاحتلال المتمثل في إضعاف السلطة الفلسطينية، وتحويل الانتباه عن العدوان على غزة، أو حتى خلق فراغ سياسي وأمني يمكن أن تستفيد منه بعض الأطراف لتحقيق مصالحها. بعض هذه الأطراف قد تكون دولية أو إقليمية، وبعضها قد يكون تنظيمات أو جهات محلية مدفوعة بأجندات خاصة.
التحدي هنا يكمن في قدرة السلطة الفلسطينية على إدارة التوازن بين التعامل مع هذه المحاولات من جهة، ومعالجة أسباب الغضب والتوتر الداخلي من جهة أخرى، حتى لا يكون هناك فراغ تستغله الأطراف الخارجية.
الحقيقة التي لا تغطى بغربال هي أن السلطة الفلسطينية تحاول كبح جماح بعض المجموعات المسلحة من جر الضفة الغربية الى حرب ضروس مثل ما يجري بقطاع غزة، ومحاولة حقن الدماء قدر المستطاع، فهي مقتنعة بحقيقة أن إسرائيل لا تعترف بالقانون الدولي ولا تضع اعتبارات لأي شيء في العالم أمام وحشيتها وعطشها للقتل والدمار لكل ما هو فلسطيني، كما أن السلطة تدرك تماما الخذلان الذي ستتلقاه من القريب والغريب، فلماذا تضع شعبها في مأزق ولا تعرف كيف تخرج منه دون تحقيق أي أهداف حقيقية مثل ما يجري بغزة تماما.
ومنذ السابع من أكتوبر، توقع الجميع بأن عواقب "الطوفان المبجّل" ستكون كارثية ومرعبة ضد أهالي قطاع غزة، حيث الانتقام الإسرائيلي غير المسبوق والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، والمستمرة منذ 14 شهرا على التوالي، بينما وصلت ارتداداتها على القضية الفلسطينية برمتها سواء بالضفة الغربية أو الداخل أو حتى فلسطينيي الخارج، حتى دفع شعبنا في كل العالم ثمنا لا يُطاق، ولا تتحمله دول عظمى، وهو ما كانت تحذر منه منظمة التحرير الفلسطينية، والرئيس محمود عباس، طوال السنوات الماضية، فيما أدركت حماس ذلك متأخرا للأسف، بعد عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين.
وتعترف القيادة السياسية بشكل علني منذ دخولها ساحة الدبلوماسية الدولية والمفاوضات برعاية دولية، اتباعها سياسية العمل على دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، والحفاظ على قضيتنا أمام العالم، بالإضافة الى المطالبة بحق شعبنا "ولا يضيع حق وراءه مطالب"، وذلك طبعا جاء بعد تجربة فصائل المنظمة العمل العسكري وتبعاته وعواقبه التي ذاق مرها شعبنا خلال سنوات المقاومة العسكرية، كما عملت المنظمة على فهم موازين القوى الدولية والسياسة العالمية.
في المقابل، استهزأت المجموعات التابعة لحماس والجهاد الإسلامي بالرئيس أبو مازن عندما قال في خطاب بالأمم المتحدة "احمونا" وطالب العالم بالعمل على نصرة شعبنا، فيما رفضت حماس والجهاد أيضا نهج السلطة بالمفاوضات، لكنها الآن تطالب المجتمع الدولي بحماية الشعب الفلسطيني بغزة، كما أنها تحاول التفاوض بطريقة غير مباشرة للوصول لوقف اطلاق دائم وتلهث وراء مصر وقطر لاتمام ذلك، ليبدو أن حماس قد اقتنعت الآن بنهج السلطة التفاوضي.
نعم، لم تكن حركة حماس تقتنع بمسار منظمة التحرير، رغم علمها الجيد بتجربتها العسكرية في مقارعة إسرائيل، لكن الحركة عملت على تضخيم قوتها العسكرية إعلاميا، وأن لديها قوة عسكرية تضاهي الدول، وتدعي الانتصار في كل حرب أو تصعيد خلال السنوات الماضية، رغم أن الحقيقة تؤكد أنها كانت تخسر كل حرب وراء الأخرى، فهي لم تحقق أيا من مطالبها التي كانت تتغنى بها، حيث لم ترفع الحصار عن غزة، ولم توقف اقتحامات الأقصى، ولم توقف هدم البيوت في حي الشّيخ جراح، أو سلوان بالقدس، هي لم تحقق أي انتصار نهائيا.
للأسف، إن قادة حماس يتخبطون يمينا ويسارا، ويعيشون حالة من الإحباط، لتبدأ البحث عن مخرج من هذا الكابوس، فبعدما كانت ترفض حماس اعتبار المنظمة ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، وكانت ترفض بشكل نهائي حلّ الدّولتين، غيرت الحركة موقفها بشكل كامل ومفاجئ، حيث بدأت قيادات الحركة بالمطالبة بضرورة فتح مسار سياسي يفضي لحل الدولتين، كما اعترفت قبل أسابيع بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي للشعب، كما وافقت في العاصمة الصينية على تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حركة فتح والفصائل الأخرى.
للأسف، لم تكن حماس تهتم لما سيحدث للشعب الفلسطيني جراء حكمها للقطاع وفرض الحصار الإسرائيلي، وغزوتها الأخيرة، وما سيجلبه كل ذلك من مصائب للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكل ذلك يعود الى نظرتها بأن التنظيم أهم من كل فلسطين، وأن فلسطين ليست سوى طريقة لتحقيق مشروعها الأكبر، مما أعاد قطاع غزة الى ما دون الصفر بكل ما تعنيه الكلمة.
لقد أحالت حركة حماس، قطاع غزة المحاصر والمنكوب بسببها إلى أطلال من الركام، يُبكي القريب والبعيد، بسبب خوضها حربا بقرار منفرد لم يكن له سببا مقنعا، تتحمل هي وحدها مسؤوليته بشكل كامل، وهو القرار الذي أسقط ورقة التوت عن قيادتها المنزهة عن الخطأ..ليدفع الشعب بأكمله خطأ قراراتها وادراكها المتأخر لكل المستجدات على الساحة الدولية والإقليمية..فهل يعي أهالي جنين ومخيمات الضفة الغربية هذه الحقيقة، أم سيكررون خطأ غزة؟ يبدو أننا سنعيد كلمة الرئيس من جديد: "احمونا" من إسرائيل وحماس على حد سواء.