رام الله الإخباري
طرق جنود الاحتلال الإسرائيلي باب منزل الفتى تكريم البطة (10 سنوات) وسط مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة. خرج تكريم وأبواه وأخواه "حسن" و"نديد" إلى فناء البيت، أطلق الجنود النار على نديد قرب باب البيت وأردوه قتيلاً أمام أهله.
"تجمدنا في مكاننا، فمن يتحرك سيموت، اقتادوا أخي حسن للخارج، سمعت صوت نسوة يتوسلن ويولولن، بعد قليل سمعنا إطلاق رصاص من رشاش والنساء تصرخ، بعد زهاء ساعتين جاء مواطنون يحملون جثة حسن مخضبة بالدم،" قال تكريم البطة (71 عاما)
ما يزال البطة يقطن في البيت الذي كان مسرحاً لإحدى الجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون خلال "العدوان الثلاثي" (إسرائيل وبريطانيا وفرنسا) على مصر الذي بدأ في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 بعد أن أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956.
بدأ "العدوان الثلاثي" بهجوم إسرائيلي في سيناء تبعه بيومين الهجوم البريطاني الفرنسي على القاهرة والإسكندرية وبور سعيد والسويس. احتلت إسرائيل غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية.يضيف البطة، الذي عمل مدرسا قبل تقاعده، إن الجنود الإسرائيليين فرضوا منع التجول وجمعوا الرجال، من بينهم أخيه حسن، وأمروهم بالوقوف على جدار "نادي الوكالة" مقابل منزله وأطلقوا عليهم الرصاص.
ويذكر البطة من الشهداء جيرانه علم الدين العلمي (مدرس) وشاكر السعيد وشهداء من عائلة صادق وفارس والأغا وجنود ومدنيين مصريين.جُمع الشهداء الأربعة نديد وحسن وعلم الدين والسعيد في ليوان [صحن] البيت، بقيت الجثث في البيت أمام تكريم وأهله لمدة يومين، وبعد انتهاء منع التجول تم نقلهم على عربة ودفنهم.
وعند احتلال المدينة نفذ جنود الاحتلال عمليات إعدام ميداني لأسرى مصريين كانوا في عملهم العسكري أو المدني، كما روى تكريم البطة."رأيت قوة إسرائيلية تقتاد جنودا مصريين مثبتين أيديهم على رؤوسهم، قارب عددهم العشرين، اقتادوهم إلى القلعة وأعدموهم هناك برفقة مواطنين فلسطينيين،" قال البطة.
وحمل المواطنون الجنود المصريين ودفنوا رفاتهم في مقبرة قرب سوق المدينة. ويردف إن الملجأ أسفل نُصب الجندي المجهول، المتاخم للقلعة، تحول إلى مقبرة، دُفن فيه مواطنون فلسطينيون ومصريون، غالبيتهم قٌتلوا في القصف الجوي.
أما عادل حسن الأزعر فكان كان ابن السادسة عشر عندما شاهد جثث فلسطينيين وجنود مصريين كومة واحدة قرب "الجندي المجهول" بجانب قلعة خان يونس وسط المدينة.كان الأزعر برفقة المئات من المواطنين بانتظار حفنة طحين كانت توزعها الغرفة التجارية وسط المدينة فأطلقت طائرتان حربيتان النار على الجياع.
حلقت طائرتان حربيتان إسرائيليتان على مستوى منخفض، وفجأة أطلقتا النار على المواطنين الذين تشتتوا وهربوا في كل ناحية، وفقا للأزعر."ألقيت بنفسي على الأرض كما يفعل الآخرون، وألقى بائع المهلبية [إسمه] ددح بنفسه على الأرض وإذ به يغطيني، ففرحت بذلك لأنه سيحميني،" قال الأزعر للوكالة الرسمية
زحف المواطنون على بطونهم إلى أقرب جدار أو مبنى للاحتماء، لاسيما وأن الطائرات كانت تطلق رصاصا كبير الحجم "بطول "20 سم" تقريبا ولم تطلق صواريخاً تلك المرة."هربت لملجأ قريب، دفعني الخوف للسباحة من فوق رؤوس المواطنين المتزاحمين على المدخل،" قال الأزعر الذي يقطن بعيدا زهاء 200 مترا عن الملجأ الذي أقيم عليه نُصب الجندي المجهول.
بعد أن فُض منع التجول خرج الأزعر من مخبأه، مواطنون هائمون يبحثون عن شربة ماء قبل أن يواصلوا رحلة البحث عن أبنائهم في أماكن مختلفة من المدينة، توجه الأزعر ناحية نصب الجندي المجهول في المنطقة بجانب "قلعة برقوق"."رأيت كومة من الشهداء ربما 7، منهم ضابطين مصريين وأطباء، عدت إلى البيت خائفا، بعد عدة أيام قالت لي عمتي إن النساء دفنوا الرجال،" قال الأزعر.
لم يتواجد الضباط والأطباء المصريون صدفة، فكان قطاع غزة بعد (حرب 1948) يخضع للإدارة المصرية التي بنت المدارس ومراكز الشرطة والمستشفيات وأوفدت المدرسين والضباط والأطباء وضباط الشرطة وموظفي القطاع المدني والأمني.
في كتابه "خان يونس وشهداؤها"، الصادر سنة 1997، يوثق الباحث إحسان خليل الأغا، أسماء 520 ضحية سقطوا في اعدامات ميدانية أو في القصف العشوائي الجوي أو البحري في "مذابح" متسلسلة كانت ذروتها الثالث والرابع والخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 1956.ويصف الأغا، الذي توفي سنة 2006، ما وقع في مدينته بـ"المذبحة الفريدة" بسبب اتساع رقعتها وعدد الشهداء وطبيعة القتل وطول وقت التنفيذ، مستغربا من عدم الالتفات إلى المذبحة طيلة عقود خلت.
ويشير الباحث الأغا أن القتل وقع في محيط 36 كم لتشمل وسط المدينة والمنطقة الشرقة والمعسكر وقيزان النجار وقرية القرارة وغيرها، وطال نساءً أيضا فقد بلغ عدد النسوة زهاء الثلاثين بينهم الطفلة نعمة صادق (9سنوات) ذكرها أيضا تكريم البطة في لقائه مع "وفا".
لم يكن الموت هو الخيار الأوحد للرجال في المدينة، فخيار الهروب والتشتت والاختباء كان لهم نصيب، لذا سيطر الرعب والعطش والجوع على أرجاء المدينة، فمنع التجول شل المدينة وشبكة المياه مدمرة، ترك الناس بيوتهم خوفا من الموت أو بحثا عن شربة ماء، كما يقول عمر عودة الأغا (78 عاما)."أكثر ما أذكره هو أمنيتي التي لم تتحقق آنذاك، أن تبلعني الأرض لأتخلص من ذاك الهَول"، قال الأغا الذي كان فتاً في السادسة عشر من عمره.
ويضيف الأغا الذي هرب مع أهله إلى شمال المدينة، أن العطش كان أكثر ما يرهقه والهاربين من بيوتهم عندما توجهوا إلى البساتين والحقول في منطقة السطر [شمال خان يونس] بحثا عن الأمن والماء."كانت الغبار تكسو وجوه الناس، البعض منهم حفاة، كل يحمل أشياءه، والأطفال على أكتاف أمهاتهم لا يتوقفون عن الصراخ، هربوا لتجنب تكرار مجازر 1948"، يردد الأغا.
أما فاطمة حسين إغريّب (82 عاما) كانت، وزوجها "محمد" الذي عمل في الشرطة المصرية، يقطنان في حارة المجايدة وسط المدينة، عند فرض حظر التجول هربوا إلى مخيم اللاجئين غرب المدينة. لكن القصف الجوي طال المخيم فهربوا إلى مدينة رفح (25كم جنوب خان يونس) سيرا على الأقدام عبر الأحراش المحاذية لشاطئ البحر.
آلاف المواطنين هربوا إلى رفح، حملت فاطمة محمد في الكافولة [قطعة قماش يُلف بها الرضيع]، وطفلتها مع حماتها، معهم وابور الكيروسين وبعض الطحين والسكر،" أما زوجها، فبسبب طبيعة مهنته، فآثر سلوك طريق مغاير، بعد أن دفنت أمه بندقيته وبدلته العسكرية.
"مشينا بين شجر الجوافة في منطقة المواصي، فتعرضنا لقصف عشوائي من البحرية الإسرائيلية، كان الجو باردا والظلام دامس، كنت أرى القذائف تلمع مثل اللؤلؤ في السماء تنفجر بين الشجر.
ولم تخل رفح من القتل، فتقرير "الأونروا" المُقدم للجمعية العامة (15 نوفمبر 1956)، الذي يعتمد على صيغة "المبني للمجهول"، قُتل في رفح 111 شخصا واحد منهم مصري و103 لاجئين في 12 نوفمبر 1956 خلال حظر التجول.
وأشارت فاطمة إلى أن الكثير من جيرانها تم إعدامهم في غيابها، علمت ذلك في العيد الأول الذي حل بعد المذبحة، حيث يتوجه المواطنون، كتقليد شعبي، لزيارة الأموات.
"رأيت نساء ورجال يبكون ويلطمون، كانوا يحملون صور أولادهم عند المقبرة، كل الصور لمفقودين رجال من عائلة البطة وبربخ والأغا وصوالي والعلمي وأبو دقة،" قالت فاطمة لمراسل وفا.
في كتابه الكاريكاتوري "هوامش في غزة" الذي صدر باللغة الإنجليزية سنة 2009 يوثق الكاتب الصحفي المالطي، حامل الجنسية الأمريكية، "جو ساكو" على لسان شهود عيان تفاصيل قتل المدنيين الفلسطينيين في خان يونس ورفح على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي.
وخلال جولته في غزة، بُعيد انطلاق انتفاضة الأقصى (2000)، قال "ساكو" في لقاء مع محليين إنه يذكر أنه قرأ شيئا عما جرى في خان يونس ورفح، وعندما حاول جمع معلومات أكثر تفاجأ أن لا معلومات كافية، لذا جاء خان يونس ورفح ومن أجل الحقيقة من أفواه شهود عيان.
بعد التنقيب في مكتبة الأمم المتحدة على الشبكة العنكبوتية تبين أن هناك تقريرا خاصا لمدير "وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (الأونروا) قُدم للجلسة الحادية عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 15نوفمبر 1956، يقول إن عدد الذين قُتلوا في مدينة خان يونس، ومخيم اللاجئين الفلسطينيين الذي حمل نفس الاسم، بلغ 275 فلسطينيا.
"تسلم المدير من مصادر يعتبرها موثوقة قوائم أسماء أشخاص زُعم أنهم قُتلوا في الثالث من نوفمبر بلغ عددهم 275 فردا، 140 منهم لاجئين و135 سكان محليين من خان يونس"، وفقا لما ورد في ملحق رقم 14A (A/3212/Add.1) من التقرير الأممي في الجلسة رقم 11.
ويقول عادل الأزعر إن الكثير من العائلات التي لم تهرب نجت بسبب الملاجئ الخاصة التي أعدوها في بيوتهم، بجانب الملاجئ التي أنشأتها الحكومة المصرية في القطاع، لكن عند تفتيش البيوت قُتل مدنيون كثر داخل بيوتهم أيضا.فخلال منع التجول اختبأ الأزعر في ملجأ جاره وديع الأغا، انضم لهم أبو حمزة الخليلي (من مدينة الخليل يعمل في مصلحة التموين) ومن جيرانه فضل البطة ووالده. مر الجنود من جانب الملجأ ولم ينتبهوا للمختبئين، كما ذكر الأزعر.
"طرقوا باب منزل عمتي وعندما فتح زوجها محمود الأزعر الباب فتحوا عليه النار وقتلوه" يردد ألأزعر.وحول ما إذا كان شاهد عملية القتل يروي الأزعر: "كل من رأى بعينه عملية القتل من الرجال تم قتله، لا شهود عيان رجال للحظة القتل."
يقول الباحث غازي الصوراني في دراسة بعنوان "قطاع غزة 1948-1993" إن القتل لم يكن في مدينة خان يونس ورفح وحدهما بل طال مختلف أرجاء القطاع، فمدينة غزة قُتل فيها 256 أما وسط القطاع فقُتل فيها 62 مواطنا.
ويضيف الصوراني في دراسته التي صدرت التي صدرت في غزة سنة 2011 في قطاع غزة وصل إلى 930 شهيدا، و215 مفقودا و716 جريحا في عمليات "انتقامية" نفذتها قوات الاحتلال في مختلف مناطق القطاع.
وكالة وفا