رام الله الإخباري
عشرات الجنود، ورتل من الدبابات والمدرعات والعربات المصفحة في حماية طائرات F-16، في إطار تنسيق تام بين الجميع. قوات تركية تعبر الحدود السورية وتنجح في المهمة وتعود سالمة؛ قرار جريء من الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان». التهاني تنهال على مسؤولي العملية العسكرية.
يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفذ تهديده، ولن يسمح بتكرار مذبحة حماة التي نفذها الأسد الأب في الثمانينات.
ولكن في الحقيقة تلك العملية العسكرية التركية كانت لنقل رفات «سليمان شاه» جد مؤسس الدولة التركية «سليمان الأول»، لا حمص ولا إدلب ولا حلب ولا وعود سابقة بالحماية ومنع المجازر والتأثير على المجتمع الدولي؛ دفعت الرئيس التركي أن يتدخل، بل أصبح موقفه يتلخص في شجب وإدانة وصمت، كما المواقف المهادنة، في نظر العديد من المراقبين.
قال أردوغان في أحد لقاءته عام 2011 حول إمكانية تكرار بشار الأسد لمجزرة مشابهة لما ارتكبه والده في حماة في الثمانينات «ستكون تركيا مضطرة لأن تنهض بمسؤولياتها تجاه مثل هذا الموقف»، واستمر الأسد يقتل، وأعداد القتلى تزيد في مذابح أكثر دموية من حماة، لكن أردوغان تحول من مهدد إلى شاجب ومندد، في نظر الكثيرين.
لن نسمح بحماة جديدة
مايو (أيار)2011، كان وقتها لا يزال رئيسًا للوزراء حين وجه أردوغان رسالة، وقال محذرًا بشار »لا يجب أن تشهد سوريا مجزرة أخرى مثل التي وقعت في حماة عام 19822«، وحذر من أن سوريا لن تتمكن من مواجهة توابع وقوع مثل هذه المجزرة مرة أخرى؛ في إشارة لرد فعل المجتمع الدول، ورد فعل تركيا المرتقب.
واختتم حديثة بقوله «وستكون تركيا مضطرة لأن تنهض بمسؤولياتها تجاه مثل هذا الموقف»؛ ما اعتبره البعض تهديدًا صريحًا بحماية المدنيين في حال الاعتداء عليهم.
وفي يوليو (حزيران) 2012 لوح رئيس الوزراء التركي بدخول الأراضي السورية وقال في مقابلة تلفزيونية «تركيا يمكنها ممارسة حقها في ملاحقة المتمردين الأكراد الأتراك داخل سوريا في حال الضرورة».
كما قال مهددًا «دمشق ستدفع ثمنًا باهظًا» بعد أن ردت القوات التركية لأول مرة على استفزازات النظام السوري، وكان ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، وأطلقت المدفعية التركية عدة قذائف داخل سوريا ردًا علي سقوط قذيفة داخل الأراضي التركية.
التدخل العسكري الصريح من تركيا كان يخص فقط حدودها والتعامل مع الأكراد، بالإضافة إلى الدفاع عن ميراث الدولة العثمانية، ورصد ذلك في موقفين: الأول في فبراير (شباط) 2015، حين توغلت مجموعة من القوات المسلحة التركية لداخل سوريا، وقامت بنقل رفات سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية، كما أعلنت تركيا في أغسطس (آب) الماضي عن عملية ضد «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) تحت اسم «درع الفرات» وشاركت وحدات من الجيش التركي ودعمتها الطائرات الأمريكية؛ مما ساعد في سيطرة قوات المعارضة على مدينة جرابلس، بالإضافة لعدد من الطلعات الجوية والمدفعية في مناطق تتمركز بها قوات كردية أو قوات من تنظيم «داعش».
وبالرغم من تلك التصريحات الصاخبة، إلا أن أردوغان لم يقدم أي شيء للسوريين في الداخل في نظر الكثيرين، غير أمل في زعيم يدافع عنهم، ولم يحدث.
تطورات الأمر لم تتوقف عند السلبية من جانب الرئيس التركي فيما يخص المذابح، ولكن أردوغان نفسه تغير موقفه وتعد واحدة من أبرز مشاهد تغيره حين أصدر تصريحات في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي قال فيها «إن عمليات الجيش التركي في داخل الأراضي السورية تهدف لإنهاء حكم الرئيس السوري بشار الأسد»، والمتابع للأحداث في سوريا يعرف أن تلك التصريحات معتادة للغاية من الرئيس التركي، لكن روسيا حين رفضت بشدة تلك التصريحات على لسان الناطق باسم الرئاسة الروسية «دميتري بيسكوف» الذي أعرب عن قلق موسكو إزاء التصريحات، معتبرها تنافي ما كان الرئيس التركي يقوله من قبل، وكان رد فعل أردوغان غريبًا هذه المرة.
رفض روسيا دفع أردوغان للتراجع، وقال أمام زعماء محليين في العاصمة التركية أنقرة «هدف عملية درع الفرات «في سوريا» ليس بلدًا أو شخصا، إنما المنظمات الإرهابية».
الانقلاب العسكري الفاشل
في منتصف يوليو (تموز) الماضي حاولت مجموعة من الجيش التركي الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولكن الشعب التركي، وأيضًا اللاجئين السوريين، نزلوا للشارع رافضين الانقلاب ومؤيدين للرئيس الشرعي، وعقب المحاولة نشرت جريدة «القدس «العربي» تحليلًا يشير إلى أن الطريق أصبح ممهدًا لدعم عسكري تركي للمعارضة السورية المسلحة، ويشير التقرير إلي أن إقالة أردوغان لعدد من قيادات الجيش ستساهم بشكل كبير في تقديم الدعم العسكري للمعارضة السورية.
خاصة من قوات «الجندرما» «الدرك»، وتلك القوات التي تتولى حماية الحدود التركية على امتداد أكثر من 900 كيلو متر مع سوريا، وترفض دخول السلاح للجانب السوري، وترفض دعم المعارضة.
وبالرغم من هذا التفسير، إلا أن مواقف أردوغان وتركيا عمومًا تغيرت على نحو مغاير. الخارجية التركية حذرت في ديسمبر(كانون الأول) الولايات المتحدة الأمريكية من مغبة قانون أقره الكونجرس يفوض وزارة الدفاع بتقديم أسلحة للمعارضة التي وصفت بـ»المعتدلة« في سوريا.
وعادت العلاقات التركية الروسية لأفضل حال بعد أن ساءت للغاية عقب إسقاط الطيران التركي لطائرة روسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 دخلت الأجواء التركية، ونسبت بعدها بين أنقرة وموسكو مشادات كلامية اتهمت فيها موسكو الجانب التركي بنقل ألفى مقاتل من تركيا إلى صفوف تنظيم الدولة و«جبهة النصرة»، وأكثر من 1200 طن من الذخيرة، وحوالي 250 عربة لمهام مختلفة.
كما نقلت وكالة الأنباء الروسية كشف وزارة الدفاع الروسية في مؤتمر صحفي ديسمبر (كانون الأول) 2015 عن مجموعة من الوثائق والخرائط الجوية توضح مسارات تهريب النفط من المناطق التي تسيطر عليها المجموعات التي وصفتها بالإرهابية شمالي سوريا إلى تركيا.
العلاقات التاريخية والتطور
بالبحث في الأوراق القديمة سنجد أن العلاقات السورية التركية خلال فترة حكم (بشار- أردوغان) كانت في بدايتها تحمل الكثير من التقارب والتفاهم، ووصل الأمر لاعتبار كل من بشار وأروغان في حكم الأصدقاء، وقبل بداية الربيع العربي وقع كلا البلدين على اتفاقية إلغاء التأشيرات. التفاهم التركي السوري وقتها كان يضفي تقاربًا إيرانيًا أيضًا، وشكل كل من أردوغان، وكان وقتها رئيسًا للوزراء، وبشار الأسد، و«أحمدي نجاد»، رئيس الجمهورية الإيرانية ما يشبه التحالف في مواجهة إسرائيل، بحسب التحليلات الصحافية وقتها.
ومع صعود «حزب العدالة والتنمية» في تركيا لسدة الحكم، وتولي رجب طيب أردوغان منصب رئيس الوزراء تصاعدت شعبيته بشكل كبير، فبعد الانسحاب التاريخي له «أمام شيمعون بيريز»، وموقفه المؤيد لسفينة كسر الحصار عن غزة، وقطعه العلاقات السياسية مع إسرائيل عقب الاعتداء على سفينة مرمرة، كانت شعبية أردوغان في أعلى درجاتها وسط قطاعات عريضة من الشعوب العربية، ومنها الشعب السوري.
أبرز انتقادات أردوغان للأسد
عقب اشتعال المظاهرات في سوريا اشتعلت الأزمة بين الجانبين. في البداية حاول أردوغان رئيس الوزراء التركي حينها تقديم النصح من خلال خطة للإصلاح والتغيير والتعامل مع الاحتجاجات.
وفي يونيو(حزيران) 2011 أعلن »أوغلوا« -وزير الداخلية التركي وقتها- عدم سعي تركيا للتواصل مع المجموعات المعارضة، وكان ذلك محاولة لتهدئة الأمور بعد التصريحات التي صدرت من أردوغان، التي اتهم فيها وقتها الجيش السوري بارتكاب فظائع، وعمل »أوغلوا« على تهدئة حدة التصريحات بين البلدين، وتواصل بشكل كبير مع الجانب السوري، وكانت أكثر المحطات ظهورًا له في أغسطس (أب)2011 عندما التقي الرئيس السوري بعد جلسة مع مسؤولين سوريين في جلسات حوار طويلة وممتدة.
مع دخول شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 تصاعدت حدة التصريحات ووصلت للتحذير على لسان أردوغان، وقال في اجتماع حزبي في تركيا: إن حكومة الرئيس السوري بشار الأسد على (حافة الهاوية) مطالبًا – الأسد- باعتذار فوري بعد تعرض بعثات دبلوماسية تركية في سوريا لهجمات، وفور صدور قرار جامعة الدول العربية بتعليق عضوية سوريا أيدت أنقرة القرار.
واستمرت العلاقات كما هي في تصاعد للاحتدام بين الطرفين، ومحاولات لإنهاء الأزمة في الداخل السوري لصالح المعارضة، وفتح الحدود للاجئين، ومع تصاعد وتشُكل رأي عام عالمي ضد »الأسد« بدأ النظام التركي الذي يقوده»أردوغان« في تعديلات كبيرة فتحت خلاله تركيا أبوابها للمعارضة السورية، وانطلقت القنوات السورية المعارضة من أراضيها، واستضافت أنقرة مؤتمرًا تحت عنوان »أصدقاء سوريا« الثاني للمعارضة، مع تهديدات متتالية من نظام »أردوغان« بالتدخل، وإقامة منطقة آمنة، وتأمين الحدود التركية ضد التوغل الكردي.
«عاجلًا أو آجلًا» سيرحل الأسد هكذا أعلن أردوغان في يوليو (حزيران) 2012، ثم انتقل في سبتمبر (أيلول) من نفس العام؛ للتأكيد على أن ما يقوم به بشار في سوريا، سيحولها لدولة إرهابية بسبب المجازر، ومع أكتوبر (تشرين الأول) أعلن شن هجوم على المعارضة في الداخل؛ لعدم التصعيد ضد الأسد؛ لينهي «أردوغان» أية محاولة للرجعة، بعد أن خاطب الأسدفي فبراير (شباط) 2013 بـ«يا بشار» وهددته حكومته بقطع الكهرباء التركية عن مناطق في سورية.
اللاجئون السوريون ورقة ضغط
لا أحد ينكر أن أردوغان قدم للاجئين السوريين كل التسهيلات، سواء في الدخول والإقامة والعمل كمواطنين عاديين، ومن المتوقع أن تصل أعداد السوريين في تركيا لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ وفق دراسة مشتركة أعدها اتحاد جمعيات أصحاب الأعمال (TİSK) التركي ومركز أبحاث السياسات والهجرة في جامعة هاجيتيبه (HÜGO).
وفي المقابل استطاع أردوغان بمسوغ حماية اللاجئين على الحدود من الدخول، وعمل منطقة آمنة تمكن من خلالها من إبعاد الأكراد عن المناطق الحدودية، وكانت أزمة اللاجئين بوابة دائمًا للمطالبة بإسقاط بشار الأسد، فقد قال أردوغان في سبتمبر (أيلول) 2015 «حل مشكلة اللاجئين لا يمكن أن يكون عبر إغلاق الباب بوجههم أو وضع الأسلاك الشائكة على الحدود، إنما المسألة الحقيقية هي وقف النزاع في هذا البلد في أقرب وقت ممكن».
لكن في يوليو (تموز) 2016 أغلقت السلطات التركية معبر باب الهوى بحجة دخول مسلحين مع تدفق اللاجئين.
لكن كانت هناك نقطة هي ربما الأخطر في هذا الصدد، وفيما يخص استخدام اللاجئين كورقة ضغط، فقد قال أردوغان في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) عقب تصويت الاتحاد الأوروبي على تجميد مفاوضات انضمام تركيا، وفي تصريحات نقلتها وكالة الأناضول «تركيا لا تفهم لغة التهديد، وإذا بالغتم في إجراءاتكم، سنفتح المعابر الحدودية أمام اللاجئين».
ساسة بوست