رام الله الإخباري
«تكلفة تلوث الهواء: تدعيم المبررات الاقتصادية للحد من تلوث الهواء» هي دراسة جديدة صادمة، قام بإعدادها البنك الدولي بالتعاون مع معهد القياسات الصحية والتقييم IHME في جامعة واشنطن في سياتل، وصدرت في الثامن من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. تسلّط الدراسة الضوء على الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تلوث الهواء، وتبين أن حالات الوفاة المبكرة المرتبطة بتلوث الهواء؛ تكلف الاقتصاد العالمي مئات المليارات من الدولارات؛ بسبب الفاقد في دخل العمل. جهد دام عامًا كاملًا؛ ليخرج لنا هذا التقرير الخطير بالتعاون فيما بين المؤسستين.
بدأ العالم عام 1990 قياس مخاطر التعرض للهواء الملوَّث، والآثار الصحية الناتجة عن ذلك. ومُذ ذاك الحين وبرز تلوث الهواء بإعتباره واحدًا من المخاطر الصحية الرائدة في العالم. ففي كل عام يموت في المتوسط 5.5 مليون شخص في جميع أنحاء العالم موتًا مبكرًا؛ بسبب الأمراض الناجمة عن استنشاق الهواء الملوث. وتشمل هذه الأمراض سرطان الرئة، وأمراض القلب، والسكتة الدماغية، والتهابات الجهاز التنفسي الحادة، وأمراض انسداد الشعب الهوائية المزمنة، مثل التهاب الشعب الهوائية وانتفاخ الرئة.
ويُصنف تلوث الهواء كرابع المخاطر الصحية الرئيسة المميتة في العالم، بعد مخاطر الأيض، والمخاطر الغذائية، ودخان التبغ. ويتفوق تلوث الهواء على الملاريا في القتل بستة أضعاف عدد قتلى سنويًا، وبـ أربعة أضعاف الإيدز.
إحترس من هذه المادة
يأخذ تلوث الهواء أشكالًا عديدة. ولكن هناك واحدٌ، هو من أخطر الملوثات الضارة على الإطلاق، ينطلق كالسهم ليخترق عمق الأعضاء البشرية الحساسة، يمكث قليلًا لتبدأ الخلايا البشرية في الاستغاثة، هي جزيئات متناهية الصغر، معروفة باسم PM2.5، ويبلغ قطرها أقل من 2.5 ميكرومتر أي حوالي 1/30 من عرض شعره الإنسان. وبسبب صغر حجمها، فهي تخترق عميقًا في الرئتين، والقلب، والأوعية الدموية؛ مما يزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض الفتاكة التي نوهنا عنها.
التركيب الكيميائي لهذه المادة يعتمد على مصدرها، وتتكوَّنُ غالبًا من الكربون والكبريتات، ومركبات النترات، ويمكن أيضًا أن تشمل مواد سامة مثل المعادن الثقيلة. ويمكن أن تنبعث هذه الجزئيات الصغيرة مباشرة من مصادر الاحتراق، كالموجودة في المركبات ذات المحركات كالسيارات أو محطات الطاقة. وبالتالي فشكمانات السيارات المتهالكة التي تجوب الشوارع مُصدرة فوهة من الدخان خلفها كالدخان الصادر من قمر صناعي يُقلع من منصة الاطلاق؛ هذه الكميات المهولة من الدخان تحتوي قطعًا على الكثير من هذه الجزئيات المميتة، بالطبع تظل عالقة في الهواء لحين مقابلة أول من سيقوم بإستنشاقها. ومن الممكن أن تتشكل هذه المواد الخطرة من تفاعل الغازات مثل غاز النشادر المنبعث من الأسمدة، مع غيرها من ملوثات الغلاف الجوي. ويمكن أن تشمل أيضًا تركيزات الغبار التي تثيرها الرياح الطبيعية.
ويوجد تلوث الهواء بشكلٍ مكثَّف في بعض المناطق الحضرية الأسرع نموًا في العالم، حيث النشاط الاقتصادي الكبير يساهم في ارتفاع مستويات التلوث وزيادة التعرض له. كما يتركز في مدن الدول النامية الأكثر كثافة سكانية، حيث المزيد من السيارات، والطاقة المستمدة من الوقود، والبناء، والإدارة غير السليمة للنفايات.
لا يمثل تلوث الهواء مشكلة في المدن فقط وإنما في خارجها أيضًا. فحوالي 2.8 مليار نسمة حول العالم يعتمدون على حرق الوقود الصلب، مثل الخشب والفحم بنوعيه الحجري والنباتي وروث الحيوانات في منازلهم لأغراض الطهي والتدفئة، حيث العديد من هؤلاء الناس يعيشون في المناطق الريفية ويفتقرون إلى أشكالٍ حديثة من الطاقة كالكهرباء. من أجل ذلك، كانت البلدان النامية هي الأكثر تعرضًا للمخاطر الصحية الناجمة عن تلوث الهواء.
في عام 2013 كان حوالي 93% من الوفيات والإصابات غير المميتة التي ترجع لتلوث الهواء في جميع أنحاء العالم؛ وقعت في البلدان النامية، حيث يتعرض أكثر من 90% من سكانها إلى مستويات خطيرة من تلوث الهواء. واحتمالية موت الأطفال أقل من خمس سنوات في البلدان ذات الدخل المنخفض تزيد بأكثر من 60 ضعف عن نظرائهم في البلدان مرتفعة الدخل.
وتناشد منظمة الصحة العالمية الدول سنويًا بأنه ينبغي ألا يزيد متوسط التركيزات لـ المادة القاتلة PM2.5 عن 10 ميكروغرام لكلّ متر مكعب، ولكن الغالبية العظمى من سكان العالم يعيشون في مناطق تتجاوز هذه الحدود، فوفقًا لبحثٍ أجرته منظمة الصحة العالمية WHO فإن أكثر من 9 من أصل 10 أفراد من سكان العالم أي حوالي 92%، يعيشون في أماكن يتجاوز فيها تلوث الهواء الحدود الآمنة.
«يمثل هذا التقرير وعبء الأمراض المرتبطة بتلوث الهواء دعوة ملحة للتحرك. ومن بين جميع عوامل الخطر المختلفة المسببة للوفيات المبكرة، فإن الهواء الذي نتنفسه يعتبر المجال الوحيد الذي ليس للأفراد سيطرة تُذكر عليه. إن صناع السياسة في وكالات الصحة والبيئة، فضلًا عن قادة الصناعة، يواجهون مطالب -وتوقعات – متزايدة لمعالجة هذه المشكلة». «الدكتور كريس موراي»، مدير معهد القياسات الصحية، متحدثًا عما ورد بالتقرير الذي يدق ناقوس الخطر لمسؤولي الدول والحكومات.
قتل للبشر.. وللأموال كذلك
تلوث الهواء ليس فقط خطرًا على الصحة، ولكنَّه يشكِّل عبئًا على التنمية. فمن خلال التسبب في المرض والوفاة المبكرة؛ يقلل تلوث الهواء من جودة الحياة، حيث يُسبب بالتبعية خسارة العمل المنتج؛ وبالتالي فهو يقلل أيضًا من الدخل في هذه البلدان الملوثة.
العبء العالمي للمرض GBD، هو تقييم عالمي يتم بواسطة منظمة الصحة العالمية حول حالات الوفاة والإعاقات الناجمة عن الأمراض والعوامل الخطرة المهددة لحياة الإنسان. وتقدم تقديرات العبء العالمي للمرض لتلوث الهواء والتأثيرات الصحية، رؤية شاملة حول عدد قتلى تلوث الهواء، حيث يتم استخدام هذا الرقم لتقييم التكاليف الاقتصادية للتلوث لاقتصاديات العالم.
تكاليف التلوث لا تعدُّ ولا تحصى؛ من خفض إنتاجية المحاصيل الزراعية إلى خفض قيمة العقارات، ونزوح العمال الموهوبين بعيدًا عن الأماكن الملوثة؛ وبالتالي الحد من القدرة التنافسية للأماكن الملوثة.
ووفقًا لتقديرات العبء العالمي للمرض 2013 فإن تلوث الهواء هو واحد من أكثر المخاطر التي تؤدي إلى الوفاة المبكرة على مستوى العالم. كما أنه مسئول عن أكثر من 5.11 تريليون دولار من خسائر الرفاه كل عام. وتمثل هذه الخسائر التكاليف الناجمة عن الوفيات المبكرة التي يسببها التعرض للجسيمات الدقيقة PM2.5 في البيئة المحيطة، وتلوث الهواء المنزلي عن طريق استخدام الوقود الصلب، وطبقة الأوزون المحيطة.
وتتحمل البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل العبء الأكبر من عدد الوفيات المبكرة الناجمة عن تلوث الهواء. حيث يشكل تلوث الهواء بالنسبة لها ثالث أهم المخاطر الصحية التي تسبب الوفاة المبكرة، وقد ارتفعت هذه النسبة كثيرًا، وما زالت منذ العام 1990. أما عن الصغار وكبار السن فهم الأكثر عرضة للموت بسبب تلوث الهواء، ففي عام 2013 يرجع حوالي 5% من وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلى تلوث الهواء. وتعتبر حصة الرجال من الموت المبكر أكبر من حصة النساء بسبب تلوث الهواء.
ومع ارتفاع عدد سكان العالم، فمن المنطقي أن تزيد الخسائر في دخل العمل المفقود سنويًا؛ بسبب تلوث الهواء. فكانت في العام 1990 حوالي 162 مليار دولار، وارتفعت بمقدار طفيف جدًا في العام 2000 إلى 163 مليار دولار، ولكنها قفزت في العام 2013 لتصل إلى 225 مليار دولار.
الأطفال.. الخطورة أضعافًا مضاعفة
ولا يقف تأثير تلوث الهواء عند الشخص بذاته فقط. فعن طريق الإضرار بصحة الأفراد، قد يكون التلوث له تأثيرٌ دائم على الإنتاجية الاقتصادية. فالتعرض للمعادن الثقيلة والمواد السامة الأخرى في مرحلة ما قبل الولادة وأوائل الطفولة يكون ضارًا بشكلٍ أكبر. الأطفال حساسون للغاية من آثار المواد السامة، وكميَّات بسيطة في دم الطفل من مواد، مثل الرصاص أو الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات الموجودة في الهواء الملوث والماء، يمكن أن يؤدي إلى التأخير المعرفي بالإضافة إلى الآثار الصحية الأخرى. هذه الآثار الصحية لها انعكاساتٌ على المدى الطويل على الإنتاجية والابتكار. فالتحوُّل الطفيف في مستوى الذكاء؛ بسبب التعرض المبكر للمواد السامة قد يقلل من عدد الأفراد الموهوبين فكريًا، ويؤدي إلى معدلات أعلى بشكلٍ طفيف من الجريمة والعنف المجتمعي.
تقول «لورا تاك»، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون التنمية المستدامة، عن الخسائر التي يسببها تلوث الهواء، والتي ينبغي أن تدفع المسؤوليين إلى التحرك من أجل الحد من هذه الخسائر:
«تلوث الهواء هو التحدي الذي يهدد رفاه الإنسان، ويضر رأس المال الطبيعي والمادي، ويعيق النمو الاقتصادي. ونأمل أن تترجم هذه الدراسة تكلفة الوفيات المبكرة إلى لغة اقتصادية يتردد صداها مع واضعي السياسات، بحيث يتم تخصيص مزيد من الموارد لتحسين نوعية الهواء. ومن خلال دعم المدن الأكثر صحة والاستثمارات في مصادر الطاقة النظيفة، يمكن أن نقلل من الانبعاثات الخطرة، وخفض وتيرة تغير المناخ، والأهم من ذلك إنقاذ الأرواح».
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
وعن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فقد توفي نحو 127 ألف شخص عام 2013؛ بسبب أمراض مرتبطة بتلوث الهواء خارج المنزل وداخله، وهو ما يشكل 7% من جميع الوفيات المبكرة، وتعتبر مصر وإيران من بين البلدان الأكثر تضررًا، سواء من حيث أعداد الوفيات التقديرية والتكلفة الاقتصادية.
وتقدر الخسائر السنوية للمنطقة من دخل العمل المفقود جراء تلوث الهواء بقيمة تجاوزت تسعة مليارات دولار عام 2013. أما عن خسائر الرفاه المتعلقة بتلوث الهواء فبلغت 154 مليار دولار أي ما يعادل نحو 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي.
وتظهر بيانات التقرير أن عدد الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء في مصر بلغ 39 ألف شخص في عام 2013، لتتزعم بذلك منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عدد الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء. مجرد المكوث لبضع ساعات في القاهرة وخصوصًا في أحيائها المكدسة بالسكان؛ حتمًا سيؤكد لك هذا الأمر.
وفي نهاية التقرير أوصت الدراسة بأن خسائر الرفاهة الاقتصادية البالغة تريليونات الدولارات جراء الإصابة بأمراض مميتة ناتجة عن تلوث الهواء، تعُد دعوة إلى العمل والتحرك. ويشير التقرير إلى أن التكاليف الإضافية للتلوث التي لم يرصدها هذا التقرير تجعل الحد من التعرض لتلوث الهواء أمرًا أكثر إلحاحًا من غيره لتحقيق أهداف الرخاء المشترك والمستدام والشامل للجميع.
ساسة بوست