81 عاما على ميلاد فيروز

ميلاد فيروز

رام الله الإخباري

في عيد فيروز الحادي والثمانين، نشتاق الحضور الزاخم لوجه إن غاب فهو لحظاتُ وهجٍ مستمرة. عامٌ مرَّ على ثمانين مَن اختارت شكل تواريها وجعلته بعض شخصيتها، فأطلّت السنوات عاكسةً اختمار المرء الفريد مثلها، وتحلّيه بسلام وهيبة.

لربما هو السلام أو التيه من صراعات تطاردها، ما جعل البُعد كاركتيرها و"العزلة" (هكذا تبدو لمن هم مثلنا، على مسافات منها) نمط تعايش مع أيام متقلّبة. يحلو للمرء تخيّل فيروز في عيدها.

يحلو له رسم ابتسامة على وجهها، وتأمّله هو الغائر بالصمت والعمق والتراكم. يتراءى وجهٌ ترك عليه العُمر متاعب صنعت اسماً عظيماً. وجهٌ من عينين واسعتين، ترمقان ما فات بالسؤال والمراجعة، وتترقّبان آتياً لا يقوى سواها على تفسيره، كون عالمها في أعماقها، وإن شاركها به الأبناء باختلاف أطوارهم والأحبّة جميعاً.

ووجهٌ من ملامح محفورة بسنين كثيفة، حَفْر أرز الرب بعلم الوطن والسنديان بأرض صلبة بعدما صنع بقاءه بالجَدّ والكدّ والصبر والتجذّر بروح التربة.

لمحاتُ خجل تطلّ من سنواتها، من الصباح والمساء والضوء ورائحة القهوة. تُنهِض "من عزّ النوم" ذكريات تتقد، هي صور محفورة في أغنية، وفي "قهوة المفرق"، وما تتألق به حنجرة جمَّلت الحب والفراق والقضية والقصيدة.  

تتحوّل اللحظاتُ فيروزيةً، في بدايات الفجر وتفتُّح العصافير على الزقزقة، حتى الإذعان للنعاس وفترة الظهيرة ومزاج الفرح والوحدة والشوق والمناجاة والرغبة.   فيروز فيض حالة غنائية، فيض صوت ينشد بانسياب ووقفة يرتجّ لها المسرح.

هي رِفقة أعمارنا، صلتنا بالإرث البديع، بالأصيل الأنيق المحترم. هي بداية يوم جديد يحمل تسلّل الشمس إلى القلوب وزخّات المطر إلى نفوس عطشى. هي كلٌّ ناضج، غامَرَ وجدَّدَ وربما صدم ثم ابتعدَ، لكنّه كلٌّ مذهَّبٌ، مكانه الأفئدة والوجدان وصفاء الذاكرة.

ينبثق من السنوات انحناءُ العينين صوب الأرض أو شرودهما في الأفق، وفي حالتي الانحناء والشرود، تلمع فيروز مثل لآلئ يغمرها الدفء ويتركها تنعم بكنوز مجد يدركها قلّة. لنا أن نقول لها عودي لأنّكِ جمال العودة وغنّي لأنكِ تدفّق البحر، لا أن ندين قراراتها وما تراه مناسباً.

تحدّثنا عن لحظات خجل تشعّ من سنينها، خجل المُبدع وكآبته وأطراف ميله إلى الانطواء، ولعلّ هذا قد يُفسّر المسافة والتمسُّك بالبُعد، وهما من الطباع المتعلّقة بالشخص وأمزجته، لا لما يحلو اعتباره غروراً أو تمركزاً في الأعلى حيث لا هواء ولا ناس ولا ابتسامات.

تستعيد بعلبك السنوات الـ 81، والوقفة الخالدة على أدراجها. فيروز هي الأضواء مُجمِّلة الأعمدة، الفخامة في شخص لعلّه يتعفّف عن التعظيم ويودّ لو يبقى مثل النسمات لا يتعب ولا يُتعِب، يتطاير خفيفاً بالجمال والبساطة وإتاحة اللذة. السنوات عطر العشق، فيروز تُعشق عِشْق الوجود لعطرٍ فيّاض من أعماق وردة.

صحيفة النهار اللبنانية