رام الله الإخباري
تجلس ابنة العشرين عاما بجواري وعلامات الذهول لا تبرح وجهها وهي تحاول أن تلملم كلماتها وتستعيد المشهد المرعب من جديد .. تنظر إلي لبرهة، مترددة إن كانت ستحكي لي القصة لأنشرها وكأنها تأخذ الإذن من خوفها لتبدأ الحكاية.
اشترطت أن لا نذكر الإسم والتفاصيل التي يمكن أن تلحق بها الأذى واتفقنا على أن نطلق عليها اسمًا مستعارًا له رمزية معينة في وجدانها.
خولة، هكذا فضلت أن نسميها خلال الحوار، هي في السنة الثانية من كلية الطب بإحدى الجامعات السورية، بدأت رواية قصتها من نهايتها تقريبا .. قاطعتها برجاء أن تتمالك أعصابها وتحكي كل شيء من البداية.
"كان يوما عاديا" تقول خولة، على الرغم من وجود درس للتشريح وهو من مقررات السنتين الأولى والثانية .. لم يكن الذهاب إلى قاعة التشريح مريحًا كثيرا .. خاصة وأن الطلبة مضطرون للتعامل مع الجثث البشرية الحقيقية التي تستعين بها الجامعات لهذا النوع من الدروس.. لكننا اعتدنا عليها نوعا ما.. دخلنا وكنا بانتظار إحضار الجثة أو العينة التشريحية التي تكون محفوظة بمادة الفورمول، حيث اعتدنا ان نرى الجثث مهترئة نتيجة مرور سنوات على استخدامها. لكن كلمات تسللت إلى مسامعنا همس بها أحد العاملين في قاعة التشريح حين قال لنا "اضحكو بعبكن رح تشوفوا جثث جديدة اليوم". ومضى بعد رسم ابتسامة جافة جعلتني أنا وزميلتي نرتبك خوفا من رؤية جثة جديدة بعد ان اعتادت أعيننا تلك العينات التي مال لونها إلى السواد.
تتنهد خولة قليلا وتعاود النظر إلي بصمت، طلبت منها أن تشرب كأسًا من الماء وحاولت أن أتخيل المشهد وأساعدها بطرح الأسئلة.
هل كنتم تجدون الجثث جاهزة أم تنتظرون إحضارها؟
لا.. عادة نجدها ممدة فوق الطاولة الفضية وهكذا كان الوضع هذه المرة أيضا.
تكمل إجابتها بأن الأمر غير المألوف هو وجود جثة ملفوفة بقماش أبيض، انتابني شعور بالخوف وكنت أفكر بأن أطلب الإذن بعدم حضور الدرس، لكن الدكتور أجابني ممازحا بأنني سأشرح اليوم أموات ولكن بعد سنوات قليلة سأشرح الأحياء أيضا.
استسلمت لكلام الدكتور الذي بدأ بتوطئة واثقة بأنه سيعيد لنا مراجعة شاملة لبعض الأعضاء التي لم تكن واضحة في العينات التشريحية البحثية السابقة حيث قال بلهجة عامية "اليوم عندنا جثة طازة، ما باس تمها إلا أمها (مثل شامي)، انتو من الطلاب المحظوظين كتير".
لم تستطع خولة أن تحبس دموعها أكثر، حيث بدأت تلهب خدها مع اقترابها من البوح بلحظة الحقيقة، وعلى عكس ما توقعت أنا، بدأت خولة تتكلم بسرعة وكأنها تريد أن توحي لنا بأنها قوية ومتماسكة أو أن هول الصدمة أخذ الأمور في هذا السياق والتحدث بسرعة، بدأ الدرس وانتهى كل شيء.
مهلا هل لك أن تفسري ذلك؟
لا يحتاج الأمر إلى تفسير.. إنه إخي نعم إنه أخي .. والله العظيم أخي.
على الرغم من معرفتي السابقة بالعنوان العريض لقصة خولة إلا أنني تفاعلت معها كما لو أنني أسمعها للمرة الأولى، وقررت هنا أن أكمل القصة عنها.
لقد كانت الجثة تعود لأخيها الذي فقدته العائلة منذ ثلاث سنوات لدى مروره على أحد الحواجز الأمنية التابعة لنظام الأسد في مدينة دمشق.
آخر الأخبار التي وصلتهم تتحدث عن تحويله إلى سجن صيدنايا العسكري سيء الصيت، فقد طلبوا من الأسرة مبالغ خيالية لرؤيته فقط، كان ذلك قبل عام، لم تبخل الأسرة ببيع ما تملك لرؤية ابنها، ولكن ذلك لم يحدث.
لقد وقفت خولة أمام جثة أخيها مذهولة وهي تتأمل وجهه الذي لا تخطئه أبدًا بالرغم من فقدانه أكثر من نصف وزنه، تحبس صرختها، وهي لا تدري كيف حدث ذلك، فقد حدثتني بأنها لو عادت بها الأيام لوقفت تصرخ وتصرخ وهي ترى أخاها الذي وقف بجانبها ودعمها في دراستها يتمدد أمامها اليوم كمادة دراسية يعبث بها زملاؤها من الطلبة.
تمالكت نفسها فهي أدركت بأن الإفصاح عن الأمر قد يلحق بها الأذى فتظاهرت بالإغماء وتم إخراجها من القاعة.
نعم هذا هو الحظ الذي يتحدث عنه دكتور التشريح فخولة رأت أخاها الذي يكبرها بسبعة أعوام، بعد ثلاث سنوات دون أن تدفع قرشا واحدًا، لم تعلم أنه كان يفصلهما جدار واحد في تلك الكلية التي باتت في نظر خولة مقبرة لأشياء عدة، مقبرة لحلمها بأن تصبح طبيبة فهي لم تعد ترغب بالعودة إلى دراسة الطب وخاصة في هذه الجامعة.
ومقبرة لأخيها الذي يرقد بسلام في خزان الفورمول جثة تجلب الحظ للطلاب الذي سئموا من الجثث المهترئة.
ومقبرة للسر الذي لن تبوح به لأمها فهي أضعف بكثير من مواجهة تلك السيدة التي تناجي الله عند كل فجر وليل وما بينهما بأن يكحل عينها برؤية ابنها المفقود.
استودعتني خولة سرها ومضت، وكان آخر ماقالته لي، أسرع بنشر القصة ارجوك، فربما أفرج غدا أو بعد غد عن صرخاتي وأوجاعي رغمًا عني، وأكملت بضحكة فيها مزيج من الأسى والحزن والسخرية من الواقع، أسرع قبل أن يضيع منك السبق الصحفي.
ومضت خولة وأنا غير مطمئن لما تحت رماد أحزانها.
الآن الاخبارية