رام الله الإخباري
مع وصول ظاهرة جديدة غريبة عن قيم مجتمعنا الفلسطيني وأخلاقه الدينية والوطنية، ومع تنامي هذه الظاهرة بشكل ملفت ومثير للاهتمام في المدن والقرى والمخيمات المنتشرة على امتداد الأراضي المحتلة والتي لطالما تحدثنا للعالم من خلال ساستنا ومؤسساتنا وإعلامنا الوطني حول إنجازاتنا فيها كتجسيد لوجودنا على أرضنا ولحقنا في إقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة، القابلة للحياة والتقدم.
أتحدث هنا عن ظاهرة القتل وسفك الدماء والأرواح التي تتزايد حالاتها سنوياً، والخلافات المجتمعية التي باتت تنتشر شمالاً وجنوباً وتنعكس على مجمل الحياة الفلسطينية، حيث لم يخجل الكثيرون من واقع بلادنا القابعة تحت أقذر إحتلال في التاريخ، فإنحرفوا بأنفسهم وبالمشهد الفلسطيني الى حافة الهاوية، أو على الاقل الى نفق مظلم تبدع فيه الجرذان في نشر سمومها وتغذية حالة الانقسام السياسي والاجتماعي الفلسطيني.
وسأحاول خلال مقالي لهذا اليوم الوقوف عند أبرز الأسباب التي أرى فيها سبباً رئيساً في تفشي هذه الظاهرة، على مجتمع لطالما تغنينا بمدى الرقي والتحضر الذي يتمتع به رغم ما يمر به من ظلم وظروف حياتية وسياسية صعبة في ظل الاحتلال، وإليكم الأسباب.
أولاً: التهاون في تطبيق القانون والنظام: وذلك من خلال تعديل أو إلغاء أو تجميد قوانين الردع أو التشريعات السارية في مواجهة القاتل او المعتدي، وخصوصاً عدم تنفيذ عقوبة الاعدام، حيث وبالرغم من تواجد هذه العقوبة في نص قانون العقوبات، إلا إنها لا تجد طريقاً للتنفيذ في القضاء المدني الفلسطيني وذلك مراعاة للمعايير الدولية وحقوق الانسان حسب مبررات المؤسسة الرسمية، بالاضافة الى أن تنفيذها يحتاج تصديقاً من الرئاسة ما يجعل من اجراءات التنفيذ بطيئة وغير حازمة أو رادعة على وجه السرعة.
ثانياً: تراجع الدور السياسي والاجتماعي لفصائل العمل الوطني الفلسطيني، والتي إفتقدت تأثيرها على أنصارها ومنتسبيها بشكل خاص، وعلى المجتمع الفلسطيني بشكل عام، حيث لم تعد هذه التنظيمات مؤثراً حقيقياً فاعلاً في واقع الحياة الاجتماعية بعد تراجع الثقة فيها على خلفية تراجع دورها النضالي وشعور كوادرها وأنصارها بعدم أهميتهم بالنسبة لها، نتيجة لعدم تجديد الدماء وإنكماش مشاريعها السياسية وإختزالها في التنافس على الحصص في المجالس المحلية أو الانتخابات العامة، حيث ساهم كل ذلك في تراجع التأثير الفصائلي على المجتمع وبالتالي تراجع قدرتها على التعامل مع المشاكل والخلافات الاجتماعية أو إيجاد حلول جذرية لها .
ثالثاً: ولأن الفصائل الفلسطينية لم تعد حاضناً أساسياً للمجتمع الفلسطيني كما كان في السابق، بدأ المجتمع بالبحث عن حاضن جديد يملأ الفراغ الاجتماعي الموجود، فكانت الضالة في ذلك من خلال التفاف الجماعات حول بعضها البعض بشكل عشائري أو مناطقي أو مصلحي، لتتنامى بذلك المشاعر القبلية والمناطقية والفكر الضيق الذي يجعل من معالجة المشاكل حتى وإن كانت صغيرة أمراً مستعصياً بسبب ضعف بنية العشيرة نفسها (مع تمرد الشباب على من كان يسمى في السابق كبير عشيرة)، ليزداد بذلك الاندفاع نحو مشاكل أكبر لإثبات الذات القبلية، في مشهد يعيد المجتمع الفلسطيني مئات السنين الى الوراء، بل ويذكرنا بالجاهلية الأولى التي كانت قريش عنواناً لها.
رابعاً: كما ويلعب الوضع الاقتصادي الصعب، والظروف الحياتية الغير مستقرة دوراً بارزاً ومهما في إزدياد وتنامي الظواهر السلبية والمشاكل المجتمعية الصعبة، حيث من الطبيعي جداً ان إزدياد الفقر والبطالة والتفكك الأسري والتسرب من التعليم الأساسي وعدم القدرة على توفير التعليم الجامعي وتراجع اداء الجمعيات والنقابات ومؤسسات العمل الأهلي في الدفاع عن الفئات المهمشة ومعالجة مظلومياتها، وضعف الدور الاجتماعي للقطاع الخاص من خلال المسؤولية المجتمعية في المساهمة في نشر الوعي بين فئات المجتمع الواحد، أو المساهمة في الارتقاء بالواقع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، من الطبيعي جداً ان كل تلك المؤثرات وغيرها تساهم في تنامي الفوضى وحلول عدم الثقة بين مكونات المجتمع، ما إنعكس بالسلب على الاستقرار الداخلي للمواطنين وفعاليتهم الأخلاقية. خامساً: وبلا أدنى شك، فان للاحتلال الاسرائيلي مساهمة بارزة في تعزيز الخلافات والمشاكل المجتمعية، لأنه ومن مصلحة هذا الاحتلال استمرار وازدياد التفكك للنسيج الوطني والاجتماعي الفلسطيني، وليس بغريب على هذا الاحتلال ان يطلق أعوانه في ليلٍ حالك، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز مشاعر الكراهية بين مكونات المجتمع الفلسطيني وبث سموم الفتنة واعادة انتاج المشاكل القديمة وحالات الثار العشائرية، بالاضافة الى مساهمة الاحتلال في ضعف الحياة الاقتصادية وانتشار الحواجز والاعتقالات والاغتيالات والجرائم التي لا تعرف التوقف.
( ولأن إعلامنا فشل في تعبئة الجماهير تجاه المزيد من الغضب ضد الاحتلال، ولأن ساستنا فشلوا في طرح مشروع سياسي يلبي طموحات الأجيال الجديدة لمجابهة الواقع الصعب، فإن هذا الغضب بدل ان ينصب باتجاه المسبب الرئيسي (الكيان الصهيوني) فإنه إنعكس بالاتجاه الداخلي، وجاءت افرازاته ونتائجه عكسية نحو مزيد من الفلتان والمشاكل المجتمعية).
ومن وجهة نظري الشخصية، لا بد لنا لمواجهة هذه الأزمة وتقليل تداعياتها الخطيرة أن نضافر الجهود على مختلف الصعد والمستويات (رسمياً، فصائلياً ، شعبياً) بالاضافة الى مؤسسات القطاعين الأكاديمي والخاص ومنظمات المجتمع المحلي والعمل الأهلي، من خلال نشر الوعي المجتمعي، والعمل على تقليل المشاكل الاقتصادية ومعالجة البطالة والفقر، ولعب دور ابرز للقضاء على المشاكل الصغيرة قبل تضخمها عبر إستعادة الدور الايجابي للعشيرة التي وإن اجتمعت لأجل (طوشة) مرة، إلا أنها تهب على عمل الخير ألف مرة، والأهم من ذلك عدم التهاون في تطبيق القانون في مواجهة المعتدين، ناهيك اعادة المشروع الوطني الى مساره الصحيح بما يعكس كل حالات القلق والكراهية وفقدان الأمل وتفريغها باتجاه المسبب الرئيسي لكل ذلك وهو الاحتلال الصهيوني، وبما يزيد التفاف جماهير شعبنا حول بعضها البعض وتعزيز وحدة وتماسك الفلسطينيين بمختلف أطيافهم وأفكارهم وأعمارهم وتوجهاتهم.
كتب: محمد عطاالله التميمي