رام الله الإخباري
موقع رام الله الاخباري :
فرد أصابعه الخمسة فوق كتف والدته الجالسة إلى يمينه في صالة المنزل الواسعة، وشدها نحوه قليلا، وقرب فمه من أذنها مستفهما "كم يوم أقمت لي بيت العزاء"؟، لكنها لم تسمع ما قاله، أعاد سؤاله بنبرة أعلى لترد "شهر وأنا أستقبل المعزيين فيك".
ذات يوم دخل مندوب الصليب الأحمر منزل عائلة عادل بكر، لإبلاغهم أنه استشهد خلال اشتباك مع الاحتلال على الحدود اللبنانية الفلسطينية، أقيمت مراسم عزاء في لبنان وفلسطين، ليعود المندوب ذاته بعد شهر، ويبلغ العائلة أنه في معتقل "كفاريونا" في حيفا.
صيف 1981 حزم عادل بكر أمتعته وخرج من بلدته قيرة شمال سلفيت، مقنعا أهله أنه في رحلة إلى الأردن بدافع الاستجمام "مخططي كان بيروت، لكن فكرة إقناع أهلي في ذلك الوقت كانت صعبة لشاب متزوج فالثورة الفلسطينية في أوجها، لكنني عقدت العزم على الالتحاق بالفدائيين"، قال عادل.
تحسس عادل جيبه أخرج علبة سجائر، استل واحدة ودسها في فمه: "بعد عام خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بعد حصار دام نحو 80 يوما، بموجب اتفاق "فيليب حبيب"، وبقيت هناك مثل بعض المقاتلين من الفصائل الفلسطينية".
"بعد سنوات اندلعت حرب المخيمات وبإحدى لياليها التقيت زوجتي الثانية هدى كانت عسكرية في صفوف الجبهة الديمقراطية" قال بينما سيجارته غير المشتعلة ما زالت تتدلى من فمه "لم نكن نعلم متى ستنتهي الحرب، ارتدينا بزتنا العسكري أنا وهي، وزفينا بصمت إلى بيت الزوجية عام 1986".
هدوء عادل المرافق لحديثة سرعان ما انقلب لتوتر، بمجرد أن علا صراخ أحفاده المجتمعين للعب عند عتبة باب الصالة، وثب من مكانه، وأشار بإبهامه نحوهم، حاثا إياهم على الابتعاد للخارج، بينما تمتمت زوجته عدلية الجالسة على طرف الكنبة "السجن جعله أكثر عصبية".
عاود عادل الجلوس في زاوية أخرى من الغرفة، وأخذ ينفث دخان سيجارته بهدوئه الأول: "بعد سنتين على زواجنا، خرجت مع مجموعة من المقاتلين، لتنفيذ عملية قرب مستوطنة "كريات شمونة"، على الحدود الفلسطينية اللبنانية، مررنا إلى البلاد عبر السياج، واشتبكنا هناك مع الجنود لنحو ساعتين، استشهد أفراد المجموعة الثلاثة بعد نفاد ذخيرتهم، وأصبت أنا بخمس رصاصات".
زحف عادل بين الجبال ونزيفه مستمر، حتى وصل أحد المنازل في قرية لبنانية حدودية صغيرة تدعى "ربة لاتين" ومنها نقل إلى مستشفى مرجعيون في الجنوب اللبناني، واكتشف الإسرائيليون ذلك، اعتقلوه واقتادوه إلى معتقل الخيام، ومنها إلى سجن صرفند في حيفا، تاركا زوجته هدى وابنته رانيا التي لم تتجاوز حينها ستة أشهر في لبنان، وزوجة أخرى في بلدته قيرة.
"الله يكافيكم الشر عندما عرفت إنه عايش" قالت والدته وهي تضع كفا فوق كف، "لم يبق سجن ولا محكمة إلا وذهبت للسؤال عنه، سامحه الله، عانيت معه كثيرا، حتى بت أسيرة في سجونهم، علموا أنني أمه فاعتقلوني عشرة أيام ثم أطلقوا سراحي".
عُذب عادل في مراكز التحقيق كثيرا في محاولة لنزع اعترافاته بالقوة، قبل أن يحكم عليه بالسجن لـ13 عاما، تواصلت زوجته هدى معه عبر الصليب الأحمر، وكانت ترسل له الصور والرسائل، بينما وحيدته رانيا تكبر وحيدة.
"هذه رانيا ابنتي مقيمة في بيروت" قال وهو يمسح براحة يده على صورتها التي أزالها عن أحد جدران الصالة، وراح يمتدح سواد عينيها، وخفة دمها، وجمال لكنتها اللبنانية.
في السجن وشم عادل بالإبرة على ساعده الأيسر اسم رانيا، وعلى الأيمن تربع اسم ابنيه تحرير وحسن اللذين أنجبهما من زوجته الأولى عدلية، يفصل الاسمين المنحوتين على ساعده قلب حب، يُلمح الاسمان، من تحت نصف أكمام قميصه الكحلي المخطط بالأبيض كلما حرك ساعده للأعلى.
عام 1999، نال حريته، حاول حينها لقاء زوجته هدى وابنته في لبنان، لكن الرفض الأمني حال دون ذلك، وكان خيار الانفصال هو الأوحد بينهما "بعد محاولات كثيرة للقاء فشلنا، حاولنا عمل لم شمل وكررت المحاولة عشرات المرات دون جدوى، وأصدرنا جواز سفر دبلوماسيا زمن الرئيس الراحل أبو عمار، لكن الإجابة جاءت بالرفض أنا ممنوع من السفر خارج فلسطين، وهما ممنوعتان من القدوم إليها".
يلتزم عادل الصمت، "كلما حاول أحد النبش أكثر في ذاكرته البيروتية، يجيب على الأسئلة المطروحة بالقليل من الكلام، وأحيانا كثيرة يكتفي بنفخ وجهه مرفقة بتنهيداته، : "كبرت ابنتي، واليوم هي بكلية الإعلام في جامعة بيروت، وارتبطت بشاب لبناني، طلب يدها مني عبر الهاتف".
تتواصل رانيا مع والدها عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي الثامن من نيسان الحالي احتفلت بعيد ميلادها الثامن والعشرين، وهي المدة ذاتها التي لم يلمح فيها عادل وجه ابنته ولم يلتقيها قط، بسبب منعه من السفر.
وكالة وفا