حالات غريبة حيّرت الأطباء، جثث منتفخة ومحترقة، وظواهر صحية وبيئية مقلقة.. هكذا عاشت مدينة نيالا السودانية، أياما بعد تعرضها لغارات جوية.
وفي تقرير نشرته مجموعة محامو الطوارئ المستقلة، تشير الأدلة، إلى أن الهجمات الجوية التي نفذها طيران الجيش البورتسوداني على نيالا في دارفور، حوّلت المدينة "بالونة تلوث كبيرة مما تسبب في العديد من حالات الاختناقات وضيق التنفس والالتهابات الصدرية وانتشار أمراض الربو والتسلخات بعد استخدام الجيش سلاح غاز الكلور في المدينة".
ولفت التقرير، إلى أن " أعدادا كبيرة من سكان نيالا يعانون من حالات التهابية غريبة، وسط تزايد ملحوظ في حالات الإجهاض وتشوه الأجنة." فيما أشار طبيب محلي إلى أن مستشفيات المدينة تستقبل يوميا العديد من الحالات المشتبه بتأثرها بتلوث كيميائي، وقال إنه بعد ملاحظة تسلخات في الجلد في أجساد الحالات التي تصلهم بعد القصف مباشرة، بدأنا في إرسال ملابس المرضى للمعامل المختصة التي أفادت بوجود آثار غاز الكلور الكميائي المحرم دوليا".
وتابع التقرير: "الشهادات التي حصلنا عليها تؤكد أن ما يحدث في نيالا هو جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان استخدم فيها الجيش الأسلحة المميتة والمحرمة دوليا واستهدف بها قطاع واسع من المدنين الذين يقيمون بالمدينة".
تأكيد رسمي
وخلال شهر سبتمبر 2025، أصدر المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية بيانًا أكد فيه وجود تلوث كيميائي في مناطق من العاصمة السودانية الخرطوم، قبل أن تنفي وزارة الصحة في بورتسودان ذلك، ما اعتبره مراقبون ارتباكا وتناقضا في المعسكر.
في غضون ذلك، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في مايو 2025 عن امتلاكها “أدلة حقيقية” على استخدام الجيش أسلحة كيميائية خلال النزاع المستمر، وأعلنت فرض عقوبات بسبب ذلك.
ومطلع عام 2025، أفادت صحيفة نيويورك الأمريكية، نقلا عن أربعة مسؤولين أميركيين كبار، بأن الجيش في بورتسودان، استخدم أسلحة كيميائية مرتين على الأقل خلال النزاع، ونشرها في مناطق نائية من البلاد.
ولفتت إلى أن الأسلحة الكيميائية التي استُخدمت كانت تحتوي على غاز الكلور، الذي يمكن أن يُسبب أضرارًا كبيرة للإنسان والحيوان ومصادر المياه.
ويؤكد القانون الدولي، وفق بروتوكول جنيف 1925 واتفاقية 1993، أن استخدام الأسلحة الكيميائية محظور تمامًا. ويشير خبراء إلى أن استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين يُعد جريمة ضد الإنسانية (المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية)، وربما يصل إلى مستوى الإبادة الجماعية في حال كانت النية تدمير مجموعة قومية أو دينية (المادة 6).
و"يمكن أن يؤدي التعرض للكلور أو مُركّباته إلى أعراضمتنوعة تتراوح من الاحمرار والحكة إلى ضيق التنفس وحتى الموت. حسب منظمة هيومن رايتس ووتش.
وقالت في تقرير نشر أكتوبر 2025، إن "استخدام الكلور كسلاح يشكّل انتهاكا خطيرا لاتفاقية الأسلحة الكيميائية وجريمة حرب بموجب "نظام روما الأساسي" لـ"المحكمة الجنائية الدولية". وأضافت أن تحقيقا جديدا أجرته قناة "فرانس 24" الإخبارية الفرنسية، يُقدّم أولى الأدلة العلنية التي تدعم المزاعم الأمريكية، مشيرا إلى احتمال استخدام الجيش السوداني الكلور في حادثتَيْن في سبتمبر/أيلول 2024. استخدام الكلور، وهو مادة كيميائية صناعية شائعة، كسلاح محظوربموجب "اتفاقية الأسلحة الكيميائية"، والسودان طرف فيها.
حدد فريق "مراقبون" في فرانس 24، وهو وحدة التحقيقات الرقمية في القناة،" الموقع الجغرافي لصور وفيديوهات نُشرت في سبتمبر/أيلول 2024 في قاعدة كرري العسكرية ومصفاة الجيلي للنفط القريبة منها شمال الخرطوم، وكلتاهما كانتا آنذاك تحت سيطرة "قوات الدعم السريع"، خصم القوات المسلحة السودانية في النزاع المسلح في البلاد."
جراح الماضي
استخدام الأسلحة الكيميائية في السودان، فتح جراح الماضي، إذ استحضر الهجوم الكيميائي الذي شنته القوات العراقية بأمر من الرئيس الراحل صدام حسين على مدينة حلبجة.
وأسفر ذلك عن مقتل 5 آلاف شخص، في نفذ الهجوم، في آخر مراحل ما يعرف بـ "حملة الأنفال" ضد الأكراد، وذلك في فترة الحرب الإيرانية العراقية بثمانينيات القرن الماضي، وذلك في 16 مارس/آذار 1988.
وتم تنفيذ الهجوم آنذاك، بقنابل تحتوي على غازي الخردل والسارين على حلبجة، وكانت بلدة صغيرة في ذلك الوقت، قريبة جداً من الحدود الإيرانية.
وتشير تقارير، إلى أغلب الضحايا كانوا من الشيوخ والنساء والأطفال، فيما أصيب 7 آلاف – 10 آلاف آخرين، ومات آلاف من المدنيين في السنة التي تلت القصف نتيجة المضاعفات الصحية وبسبب الأمراض والعيوب الخلقية، وما يزال الكثير من عوائل الضحايا تحاول العثور على جثث أطفالها وشيوخها ورجالها الذين فقدوا أثناء القصف.
وبعد توقيفه، وجهت محكمة عراقية خاصة، اتهامات لصدام حسين وابن عمه علي حسن المجيد الذي قاد قوات الجيش العراقي في كردستان في تلك الفترة بتهمة جرائم ضد الإنسانية المتصلة بالأحداث التي وقعت في حلبجة.
وفي ذات السياق، قضت محكمة هولندية، أن صدام ارتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد سكان حلبجة، وكانت هذه المرة الأولى التي تصف محكمة هجوم حلبجة كفعل من أفعال الإبادة الجماعية.
إبادة في الغوطة
ما حدث في حلبجة ونيالا، تكرر ، استيقظ عليه السوريون من أهالي عدد من بلدات الغوطة الشرقية بريف دمشق قبل 12 عاما، حيث مشهد لمئات الجثث في الشوارع والمنازل لأشخاص قتلوا بغاز السارين السام، في واحدة من أسوأ المجازر التي ارتكبتها قوات نظام الأسد بحق المدنيين على مدار سنوات الحرب.
وشنّ نظام بشار الأسد الدموي في 21 آب/أغسطس 2013 هجومًا بالأسلحة الكيميائية التي تحتوي على غاز السارين على سكان منطقة الغوطة في دمشق، وأسفر عنه مقتل 1400 شخصًا ومن بينهم عدّة أطفال.
ووثقت منظمة هيومن راتيس ووتش، هجمتين مزعومتين بالأسلحة الكيماوية في سوريا، استهدفتا مناطق تسيطر عليها المعارضة في ريف دمشق، بالغوطة الشرقية والغربية، والمسافة بينهما 16 كيلومتراً، صباح 21 أغسطس/آب 2013.
وأسفرت الهجمات عن مقتل مئات المدنيين، وبينهم أعداد كبيرة من الأطفال. حللت هيومن رايتس ووتش "شهادات الشهود بشأن الهجمات بالصواريخ، والمعلومات الخاصة بالمصادر المُحتملة للهجمات، والمخلفات المادية لنظم السلاح المستخدمة، والأعراض الطبية التي ظهرت على ضحايا الهجمات حسبما وثقها عاملون بالمجال الطبي."
وتابعت المنظمة: "توصلت تحقيقاتنا إلى أن من المرجح أن هجمات 21 أغسطس/آب قد تمت بأسلحة كيماوية، باستخدام نظام صواريخ 330 ملم أرض أرض، يُرجح أن يكون إنتاجاً سوريا، ونظام صواريخ 140 ملم من الحقبة السوفيتية، وأن الصواريخ المذكورة استخدمت في توصيل غاز أعصاب." وأضافت: "ويظهر بقوة من الأدلة الخاصة بنوع الصواريخ ومنصات الإطلاق المستخدمة في هذه الهجمات أن هذه نظم أسلحة معروفة وبشكل موثق بأن القوات المسلحة السورية النظامية هي وحدها التي تملكها وسبق لها استخدامها. لم توثق هيومن رايتس ووتش أو خبراء الأسلحة الذين يراقبون استخدام الأسلحة في سوريا حيازة قوات المعارضة السورية لصواريخ 140 ملم أو صواريخ 330 ملم من المستخدمة في الهجوم، أو المنصات اللازمة لإطلاق هذه الصواريخ."

