المتابع لوضع غزة منذ عامين، أي منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية، يجد أن الموت لا يقتصر على الصواريخ والرصاص، هناك موت من جانب آخر تماما، قليل من المطر يكفي لتموت في غزة، خصوصا لو كنت تسكن في خيمة مهترئة منصوبة على أرض موحلة، فتجد أطفالك أطفال يرتجفون بردا، وزوجتك تحاول عبثا إنقاذ ما تبقى من فراش مبلل وكرامة مهدورة.
للأسف، إن هذا المشهد قد تكرر على مدار عامين، وفي هذه الأيام الماطرة يتكرر كل ليلة لدى أغلب العائلات في قطاع غزة، حيث تُرك الناس لمصيرهم تحت عنوان كبير "الصمود والتحدي"، بينما قيادة الحركة ومن يطالب غزة بالصمود يعيش في هناء بقصورهم في إسطنبول والدوحة وبيروت.
علينا تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، فغرق الخيام في قطاع غزة لا يمكن اعتبارها كارثة طبيعية، بل فضيحة سياسية وأخلاقية، لحركة حماس.. نعم فضيحة لمن فكروا وخططوا وقادوا الناس "حاضنتهم الشعبية" إلى هذا المصير الحالي، ثم تركوهم يواجهون الشتاء بلا حماية، بلا بنية، بلا حد أدنى من الاستعداد.
إن مشاهد غرق النازحين وخيامهم البالية ودمار بعض البيوت جراء أول منخفض جوي على القطاع، يفرض سؤالا ساخرا وموجعا، كيف لحركة أطلقت على مشروعها اسم "طوفان الأقصى" أن تعجز عن حماية أهلها حتى من المطر؟، بعدما تم تقديمه للناس على أنه بوصفه طريقا لتحرير القدس والأقصى وفلسطين بشكل عام؟
إن ما جرى خلال الأسبوع الماضي، لم يكن طوفانا في وجه إسرائيل لتحرير الأقصى كما تم تقديمه، إنما طوفانا ارتد على أهالي قطاع غزة، بعدما دمر البيوت المترهلة، والخيام البالية، وشتت العائلات النازحة، وأغرق الفلسطينيين في كارثة إنسانية غير مسبوقة، واليوم لم يعد الغزيين يسألون عن النصر أو الهزيمة، أو تحرير الأقصى أو اللاجئين، لم يعودوا يسألون عن أي من ثوابت القضية الفلسطينية، بل عن بطانية غير مبللة بماء الأمطار، وسقف لا ينهار جراء منخفض جوي هنا أو هناك، وأرض ثابتة لا تغرق أطفالهم مع أول قطرة من ماء المطر.
الحقيقة التي لابد أن يراها قادة حماس اليوم، أن غزة اليوم لا تحتاج خطابات، ولا أناشيد، ولا شعارات رنانة، بل تحتاج أبسط حقوق الإنسان، ومأوى يحميهم من البرد والمطر.
المؤسف في الأمر، والفرق القاسي بين الشعارات والواقع، هو أن مخططي السابع من أكتوبر، لم يخططوا لشتاء قارس سيقتل الأطفال من أول قطرة ماء، ولم يعملوا حسابا للخيام والطين، ولا المياه التي تدخل على المرضى والأطفال مع كل منخفض جوي يأتي الى غزة، حتى أن الأهالي هناك باتوا يكرهون الشتاء، ولا ينامون الليل قلقا، إذا سمعوا في الأخبار عن قدوم منخفض أو أمطار.
إن إهانة الناس وزيادة معاناتهم كل منخفض جوي أو رشة مطر، في ظل حديث القادة المنفصلين عن الواقع عبر طوفانهم الذي يعتبرونه حتى اليوم بأنه إنجاز، انفصال واضح عن الواقع، فأي مشروع وطني تحرري لا يحمي المدنيين، وأي مقاومة تترك شعبها عُرضة للبرد، والجوع، والمطر، لا يردها الشعب، على الأقل خلال الفترة الحالية، لأن المسؤولية لا تُلغى بالشعارات ياقادة.
نعم، من قرر ومن قاد المواجهة، وبشّر الناس بالطوفان، يتحمل مسؤولية النتائج، كاملة غير منقوصة، بما فيها المشهد المذل الذي نراه في غرق الخيام وموت الأطفال بردا، لأن الطوفان الحقيقي ليس ما قيل في البيانات، بل ما نراه اليوم في شوارع غزة ومخيماتها.
"طوفان حماس" كشف الحقيقة، أن فصيلا "فرَد عضلاته" طوال السنوات الماضية، ونجح في اقصاء باقي الفصائل وعلى رأسها منظمة التحرير من قطاع غزة، لكنه للأسف لم ينجح في حماية الناس من "زخة مطر"، بعدما لم ينجح طوال عامين في حمايتهم من الحرب.
للأسف، سقطت آخر أقنعة حماس في منخفض جوي خفيف، فلا الأقصى تحرّر، ولا غزة بقيت مثلما كانت، ولا حُميت بالسلاح "البقرة المقدسة"، ليجد الناس أنهم وحدهم في مواجهة صواريخ إسرائيل ووحدهم أيضا في مواجهة الماء والبرد والخذلان.

