في فلسطين.. لماذا يغيب الفني المحترف بينما البطالة تكسر الأرقام؟

في فلسطين، تستطيع أن تحجز موعدا مع طبيب خلال دقائق عبر اتصال هاتفي أو رسالة "واتساب"، لكنك قد تقضي أياما وربما أسابيع في محاولة العثور على "مواسرجي" يصل في الوقت المناسب قبل أن تغرق أرضية البيت، أو حداد ينجز بابا أو شُباكا في موعده، أو ميكانيكي سيارات يشخّص عطل مركبتك من الزيارة الأولى بدل الدخول في دوامة التخمين والتجريب.

هذا المشهد اليومي ليس مجرد انطباع اجتماعي، إنما واجهةٌ لأزمة اقتصادية عميقة تتعلق ببنية سوق العمل، وطبيعة التعليم، ونظرة المجتمع إلى المهن الحِرفية مقابل التخصصات الجامعية التقليدية.

تُظهر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد العاطلين عن العمل في الضفة الغربية قفز إلى نحو 313 ألف شخص في عام 2024، مقارنة بحوالي 183 ألفا فقط في 2023، وارتفع معدل البطالة في الضفة من 18% إلى 31% خلال عام واحد، متأثرا بإغلاق سوق العمل الإسرائيلي وتشديد القيود بعد الحرب على غزة.  

تعني هذه الأرقام ببساطة أن ثلث من يبحثون عن عمل في الضفة الغربية بلا فرصة حقيقية، في اقتصاد منهك أصلًا، ومع ذلك فإن المواطن العادي حين يحتاج إلى مهني محترف لإصلاح عطل في المنزل أو المركبة يكتشف أن "الأيدي العاملة موجودة، لكن الكفاءة نادرة".

الصورة تتضح أكثر حين ننظر إلى بطالة الخريجين. ففي الربع الرابع من عام 2024 بلغ معدل البطالة بين الشباب الخريجين (19–29 سنة) من حملة الدبلوم المتوسط فأعلى في الضفة الغربية حوالي 36.1%، مع ارتفاع النسبة بين الشابات إلى 44.4%.  

أي أن أكثر من واحد من كل ثلاثة خريجين جامعيين تقريبا يقفون في طابور الانتظار بلا عمل، بينما السوق يصرخ بحثا عن فني تكييف محترف أو كهربائي سيارات يفهم أنظمة الهايبرد، أو سبّاك يعرف معايير التركيب الحديثة.

في المقابل، تكشف تقارير رسمية ودولية عن حضور هزيل للتعليم المهني في مسار الطلاب الفلسطينيين.

بيانات رسمية وتقارير دولية حول سياسات التعليم في فلسطين تشير إلى أن نسبة طلبة التعليم المهني في المرحلة الثانوية لا تزال تدور بين نحو 2% إلى 4% فقط من إجمالي طلبة هذه المرحلة في السنوات الأخيرة، وهي نسبة متدنية للغاية مقارنة بدول كثيرة تتراوح فيها نسبة التعليم المهني بين 30% و50% من طلبة الثانوية. 

بمعنى آخر، المجتمع يدفع بأغلب أبنائه إلى التعليم الأكاديمي التقليدي، ثم يترك سوق المهن الحرفية يعاني من نقص في الكفاءات وغياب في التخصص.

الفجوة بين ما تنتجه الجامعات وما يحتاجه السوق تنعكس أيضا في أرقام الشباب "الخارجين من المعادلة". فوفق إحصاءات رسمية، بلغت نسبة الشباب (18–29 سنة) في الضفة الغربية الذين لا يعملون ولا يدرسون ولا يتلقون تدريبا حوالي 47% في عام 2023، وهي نسبة صادمة تعني أن نصف جيلٍ تقريبا معطل عن التعليم والعمل معا. 

الفراغ القائم لا يملؤه تعليم مهني منظم، ولا سوق حِرفي مضبوط، بقدر ما تسوده العشوائية في التدريب، وتكرار لنمط "التعلم على الشغل" دون معايير واضحة.

في الميدان، يتجسّد هذا الخلل في تفاصيل الحياة اليومية: تسريب صغير في دورة المياه قد يتحول إلى "غرق" داخلي، لأن المواسرجي الذي يأتي متأخرا قد لا يملك معدات مناسبة، أو ينجز العمل بطريقة ترحّل المشكلة بدل حلها.  أبواب الألمنيوم والحدادة كثيرا ما تُسلّم بتأخير، وبمواصفات أقل من المتفق عليها.

أما ورش تصليح السيارات، فغالبا ما تتحول إلى مساحة تجريب: قطعة تُبدَّل اليوم، وأخرى بعد أسبوع، وثالثة بعد شهر، و"الفاتورة" تتضخم بينما العطل الحقيقي يبقى بلا تشخيص مهني دقيق.

لم تعد هذه الفوضى مجرد شكاوى فردية، بقدر ما أصبحت تعبيرا عن سوق يقوم في جزء واسع منه على العمل غير المنظم. فبيانات الإحصاء الفلسطيني توضح أن نسبة التشغيل في الاقتصاد غير المنظّم في الضفة الغربية وصلت إلى نحو 61% من مجمل العاملين في 2024، ما يعني غيابا واسعا لعقود العمل، والحماية الاجتماعية، وآليات التنظيم والرقابة، وخاصة في القطاعات الحرفية والمهنية. 

في مثل هذه البيئة، يمكن لأي شخص أن يفتح ورشة، أو يعلن نفسه "فنيا" دون أن يمر بمسار تدريب معتمد أو امتحان مزاولة مهنة، ليبقى المواطن هو "حقل التجارب" الأول والأخير.

اقتصاديا، هذا الخلل يعني هدرا مزدوجا. فمن جهة، تُنفق الأسر أموالًا إضافية على إصلاحات تتكرر بسبب سوء التنفيذ؛ إصلاح خاطئ في الكهرباء أو السباكة قد يكلف مرتين أو ثلاثا، وعطل في المركبة يُعالَج بالتخمين قد يتطور إلى ضرر أكبر وتكلفة أعلى.

ومن جهة أخرى، تستثمر آلاف الأسر في تعليم جامعي لأبنائها، ليتخرجوا إلى طابور البطالة، في حين تبقى ورش المهن الحرفية تعاني نقصا في المتخصصين القادرين على مواكبة التكنولوجيا الحديثة والاشتراطات الفنية.

التناقض بين "التخمة الأكاديمية" و"العجز المهني" ليس قدرا محتوما، بل نتيجة خيارات وسياسات ورؤى اجتماعية.

تقارير دولية حول التعليم والعمل في فلسطين تشير إلى أن نسبة الالتحاق بالتعليم العالي تبقى مرتفعة مقارنة بالإمكانات الاقتصادية، بينما تبقى حصة التعليم والتدريب المهني والتقني متواضعة، رغم أن صانعي السياسات يعترفون منذ سنوات بأن المسار الأكاديمي وحده لا يكفي لاستيعاب طموحات الشباب في سوق العمل. 

رغم ذلك، ما زال الاتجاه السائد في البيوت الفلسطينية يعتبر شهادة الجامعة "وجاهة اجتماعية" حتى لو انتهت إلى بطالة طويلة، بينما ينظر كثيرون إلى من يرتاد مدرسة مهنية أو مركز تدريب كأنه اختار "الخيار الأقل شأنا". والنتيجة: خريج جامعي يحمل شهادة بلا عمل، ومواطن يبحث عن مِهني حقيقي فلا يجده إلا بعد انتظار ومجازفة وتجارب مريرة.

إعادة التوازن لهذا المشهد تتطلب ما هو أكثر من "نصيحة للأهالي بتشجيع أولادهم على المهن". نحن أمام ملف اقتصادي واجتماعي يحتاج إلى سياسات واضحة: مسار مهني منظّم يبدأ من المدرسة الثانوية، بنظام إرشاد مهني جاد، وتوسيع جدي لمراكز التدريب المهني وفق احتياجات السوق الفعلية، وربط حقيقي بين هذه المراكز وبين المشاغل والورش، وصولا إلى نظام اعتماد وترخيص للمهن يميز بين من يملك مهارة موثقة ومن يعتمد فقط على التجربة العشوائية.

في اقتصاد يعاني من ارتفاع غير مسبوق في البطالة، وتآكل في الأجور، وغلاء في تكاليف المعيشة، لا يمكن لفلسطين أن تتحمل كفاءة مهنية هشة في القطاعات التي تلامس حياة الناس يوميا. إصلاح عطل في دورة المياه، أو تأهيل شبكة كهرباء منزلية، أو صيانة مركبة، يجب أن يصبح جزءا من منظومة مهنية محترفة، لا مغامرة يخوضها المواطن في كل مرة.

المعادلة اليوم واضحة: الجامعيون هم الأكثر بطالة، والمهن الحرفية هي الأكثر عطشا للكفاءات. وإذا لم يُعاد الاعتبار للتعليم المهني والتقني كخيار أول لا "حلٍّ ثانٍ"، سيبقى بيتٌ ينتظر "المواسرجي"، وسيارة تراوح مكانها في الكراج، وخريج يعلق شهادته على الحائط… وينتظر دوره في قائمة لا تنتهي.