غداة سقوط نظام بشار الأسد، سارعت إسرائيل إلى احتلال قمم إضافية في جبل الشيخ السوري المحتل، وللسيطرة على “مناطق الحرام” الحدودية من مجدل شمس إلى الحمة، أمرت سكان بعض القرى السورية بالبقاء داخل البيوت، لأن “قواتها تعمل في المكان”. وفي التزامن، واصلت قصفها الواسع في طول وعرض البلاد من أجل “تدمير الجيش السوري” ومنع تسرب سلاح إستراتيجي ليد المتمردين.
تطمع إسرائيل بمساومة وابتزاز أي نظام جديد بالانسحاب مقابل نوع من التطبيع السياسي، أو الاتفاق على أشياء عينية، مثل استعادة رفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهن
كما تحاول إسرائيل تبرير احتلالاتها وانتهاكاتها الجديدة، وسط صمت إقليمي ودولي شبه كامل، بالزعم أنها لم تعد ملزمة باتفاق “فضّ الاشتباك ووقف النار” (1974)، بعدما سقط نظام الأسد الذي وقّعت معه الاتفاق، علماً أن هذا الاتفاق تم مع الرئيس الراحل حافظ الأسد.
بيد أن الأمن هو مجرد يافطة دعائية، فقبل وبعد سقوط بشار الأسد لم تُطلق رصاصة واحدة على الجانب الإسرائيلي من الأراضي السورية، ولا يبدو أن هناك جهة في سوريا تنوي ذلك، وهناك مآرب وأطماع إسرائيلية غير معلنة، بعضها مفضوح، وهي اقتطاع المزيد من الجغرافيا والضم، استمراراً للسياسات الإسرائيلية حيال أراضٍ عربية.
في هضبة الجولان، التي ضمتها إسرائيل لسيادتها عام 1981، وصادق عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الأولى، هناك أطماع إسرائيلية قديمة جديدة بالاستيلاء على مناطق هامة، مثل القمم الإستراتيجية لجبل الشيخ، وعلى المزيد من الأرض الجولانية، المتميزة بخصوبتها وثرواتها ومواردها الطبيعية من زراعة وسياحة وغيره.
رداً على أسئلة صحفية لصحفيين إسرائيليين شاركوا، في الأمس، بمرافقة كتيبة إسرائيلية دخلت سوريا، عمّا إذا كانت السيطرة على هذه الأراضي السورية مؤقتة أم للأبد، يكتفي مسؤولون إسرائيليون بالقول إما “سيطرة مؤقتة” أو “ريثما تستقر الأوضاع في سوريا”.
بين هذا وذاك، تدلّل التجارب العامة، خاصة الإسرائيلية والوقائع على الأرض، أن أكثر شيء دائم هو ما يُعلن عنه أنه مؤقت.
للمساومة
ضمن سلة المآرب غير المعلنة لهذه السيطرة الإسرائيلية على أجزاء من الجغرافيا السورية، هناك رغبة بمحاولة كيّ وعي المتمردين والنظام الجديد المتشكّل وعموم السوريين بالحديد والنار، ترهيبهم والضغط عليهم بالابتعاد عن المحور المعادي لإسرائيل وعدم التعاون معه في أي مجال من شأنه أن يمس بها.
وهذا ما يفسر انتشار تقارير صحفية كاذبة عن توغّل الجيش الإسرائيلي لمناطق تبعد 20 كيلومتراً فقط من دمشق، علماً أنها توغلت ولكن ليس لهذا الحد، ويبدو أن التسريبات هذه مصدرها إسرائيلي رسمي، وكجزء من “كيّ الوعي” والترهيب.
وينعكس ذلك في التهديدات المتتالية لسوريا والسوريين على لسان ساستها ممن يكررون تهديداتهم بـ”مصير الأسد”، بحال قاموا بمساعدة جهات معادية لإسرائيل، كما جاء في تهديدات نتنياهو وكاتس، أمس.
يضاف لذلك مأرب إسرائيلي خبيث تطمع فيه إسرائيل بمساومة وابتزاز أي نظام جديد بالانسحاب من هذه المناطق السورية الجديدة المحتلة، مقابل نوع من التطبيع السياسي، أو الاتفاق على أشياء عينية، مثل استعادة رفات الجاسوس الإسرائيلي التاريخي إيلي كوهن، الذي كانت وما تزال معنية جداً باستعادته، وغيره من الطلبات.
مثل إسرائيل في ذلك مثل من يُدخل عنزة سوداء لداخل صالون البيت، ولا يلبث أن يساوم صاحب البيت على إخراجها ليستريح مقابل شروط وطلبات. وربما يبدو مستهجناً لكن من غير المستبعد أن تكون حسابات داخلية أخرى ترتبط بوعي الإسرائيليين، فرئيس حكومة الاحتلال نتنياهو كان، في الأيام الأخيرة، في سجال كبير مع المحكمة المركزية، التي رفضت طلبه بتأجيل تقديم شهادته في محاكم الفساد، ومن خلال هذا القصف العشوائي للأراضي السورية على منوال قصف غزة والضاحية واقتطاع أجزاء منها هو يريد إقناع الإسرائيليين بـ”عبثية” استمرار محاكمته الآن تزامناً مع زلزال سوري خطير ومجاور وحرب لم تنته بعد في الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، وهذا ما يقوله مباشرة عدد من أبواقه من الوزراء ومن النواب.
وهذه ليست المرة الأولى، ولا الأخيرة على ما يبدو، التي يخلط فيها قادة الاحتلال الإسرائيلي، وعلى رأسهم نتنياهو بالذات، الحسابات العليا مع الاعتبارات الفئوية، ففي غزة يرفض وقف الحرب وإتمام صفقة طمعاً باستبعاد يوم الحساب وبالبقاء في سدة الحكم وفي التاريخ وغيره.
فرنسا وألمانيا
تواصل إسرائيل انتهاك سيادة سوريا وسلامة أراضيها، تستولي على شريط حدودي يزداد عرضاً بالتدريج، وتدمّر منشآت ليست عسكرية فحسب، وهذا وسط استغلال لردود فعل سورية وعربية ضعيفة وصمت دولي، عدا بعض التصريحات الصادرة عن دول أجنبية، مثل فرنسا وألمانيا، تدعو لفظياً للانسحاب من هذه المناطق السورية التي احتلتها إسرائيل في الأيام الأخيرة.
كما تستفيد حكومة الاحتلال من تأييد الإسرائيليين لهذه الانتهاكات للأراضي السورية، كما ينعكس في تغطيات الصحافة العبرية التي تواصل التعبير عن انفعالها ودهشتها من “الفتوحات الإسرائيلية”، وترسل طواقمها لمرافقة الجنود داخل سوريا، وتنشر مقالات رأي مؤيدة لها.
تبنّي الرواية الرسمية
على سبيل المثال، يقول المعلق الإسرائيلي الخبير بالشؤون البرلمانية عميحاي أتالي، اليوم، الخميس، إن ما تشهده سوريا في الأيام الأخيرة هو، من دون شك، درس مهم في “نظرية الثامن من أكتوبر”. لافتاً إلى أن سلاح الجو يمرّ على كل ما يوجد فيه قدرة عسكرية تتجاوز المستوى التكتيكي ويدمره؛ طائرات ودبابات وسفن وقدرات بحثية وتطوير وإنتاج، كل شيء يتجاوز مستوى الكلاشينكوف والآر بي جي جرى تدميره.
في مقال تنشره صحيفة “يديعوت أحرونوت”، التي تحتفل اليوم بالعام الـ85 لصدورها، يقول إنه ليس لديه أدنى شك في أنه لو سقط النظام السوري في أي لحظة أخرى من الزمن، فإن إسرائيل، ما قبل 7 أكتوبر، ما كانت نفذت ما نفذته الآن.
ويمضي في تبني الرواية الرسمية في الأساس والمستندة لـ “الحفاظ على الأمن”: “كنا سننتظر ونفحص الواقع، ونتردد، وفي هذه الأثناء، كانت القدرات الإستراتيجية ستقع بين يدي مجموعات مجنونة، لا مثيل لها. أحد الدروس المهمة من الاقتحام و”المذبحة” والخطف الجماعي، هو أننا لا نملك ترف الوقت لكي نفهم نيات العدو، ولا نملك هامشاً للخطأ”.
ويقول أتالي إن المبدأ الناظم للعقيدة التي يجب على إسرائيل انتهاجها بسيط: “عندما يقف في مواجهتنا عدو مسلم ديني- أصولي، فإن أيديولوجيتنا الأساسية هي تدميره، تدمير قدرات العدو، وتدميره شخصياً، يجب أن يصبح في عداد الأموات فوراً. ويجب علينا تطبيق هذا المبدأ فوراً على الساحة الإيرانية (مع الأخذ بعين الاعتبار القدرات التقنية والاعتبارات الدولية، مثل تبدُّل الإدارة في الولايات المتحدة). قبل كل شيء، الأهم هو تدمير القدرات، بعدها التدمير المادي لكل المشاركين”.
ويضيف: “نظراً إلى أن الصورة في سوريا غير واضحة، لا من ناحية النيات، ولا من حيث ميزان القوى، ولا على مستوى الشخصيات والأيديولوجيا المسيطرة، كان من المهم القيام بعملية تنظيف كاملة للميدان بقدر الممكن، وهذا ما نفعله الآن. في ضوء كل ما مر بنا؛ ببساطة، لا يمكن لشعب إسرائيل التنازل عن ضرورة تغيير ضروري وجذري في عقيدتنا الأمنية”.