وسط غرفةٍ صفية بمنطقة غرب غزة، يستلقي عبد الحق المحلاوي على ظهره بجسدٍ نحيل، وبطنٍ منتفخ، وعيون حاصرها السواد، يحكي معاناته مع السرطان خلال الحرب التي أضعفت حركته وكلامه، وأفقدته الشهيّة بعد اجتماع المرض مع الجوع والخوف والنزوح، وانهيار المنظومة الصحيّة.
يخوض المرضى في قطاع غزة معارك لمجابهة مرض السّرطان، غير أنّهم اضطروا منذ السابع من أكتوبر لخوض معارك أخرى لا تقل ضراوة وشراسة
اكتشف المحلاوي (70 عامًا) إصابته بسرطان الرئة قبيل العدوان، ليحصل على جلسةٍ عاجلة للعلاج بالكيماوي في رام الله، بعد أنّ تبين إصابته بالدرجة الرابعة من المرض، أي الأخطر، وهو ما جعله على موعدٍ مع الجلسة الثانية في منتصف تشرين ثان/ أكتوبر 2023، ولكن اندلاع الحرب حال دون ذلك.
ضاعف العدوان خطورة حالة المحلاوي الصحية بفعل غياب العلاجات، وتفشي المرض وانتقاله من الرئة إلى غشاء المعدة، بينما يستمر الاحتلال في تدمير المستشفيات التي تقتصر الرعاية فيها على إجراء الفحوصات وإعطاء المسكّنات، وبعض صور الأشعة.
يقول المحلاوي: "أنا أعيش منذ قرابة 10 أشهر على الماء إلى جانب القليل من الحساء أو المعلّبات، فلا طعام جيّد، ولا مياه صالحة. وانخفض وزني سريعًا، وحركتي صارت محدودة جدًا، وكل ذلك تسبب في تراكم المياه داخل جسمي، عدا عن شعوري الدائم بالاختناق.
يبيّن المحلاوي أنه حاول الحصول على تحويلة طبية للعلاج في الخارج عبر المؤسسات الدولية، إلا أن إغلاق المعابر وصعوبة التنسيق، إلى جانب خطورة الطرقات المؤدية إلى جنوب القطاع حالت دون ذلك.
دوامة نقص العلاج
لم يكن السرطان المرض الوحيد الذي يعاني منه المحلاوي بل كان القلب أيضًا، وعن ذلك يقول: قمت بتركيب "دعّامات للقلب من 15 سنة وعايش طبيعي، فجأة أثناء إجرائي لفحوصات للقلب اكتشف الأطباء إصابتي بالسرطان".
وأضاف: أعاني في دوامة نقص العلاج، وحين أتناول العلاج الخاص بإخراج الماء المتراكم في جسدي يهبط الضغط، فاضطرُ إلى إيقافه واستكمال أدوية القلب، فتتراكم المياه في صدري وتتسبب لي بضيق التنفس فاضطر للعودة لأقراص إخراج المياه والإمساك عن علاج القلب.
تشاركنا زوجته هدى الحديث بقولها: "حالة زوجي محتاجة رعاية خاصة، ونحن نعيش تحت ضغط هائل والاحتلال يتعمّد قتلنا على البطيء بالمرض والجوع والتهجير"، موضحةً أن المياه الملوثة إلى جانب حساء حشائش الأرض أثّرت على وظائف الكلى والكبد لدى زوجها خلال العدوان، كما أرهقه النزوح لأكثر من 20 مرة.
وتلفت هدى إلى أنها تقضي معظم نهارها متجوّلة في السوق بحثًا عمّا يُشبه الطعام، مضيفةً أنّ "الأسعار خيالية؛ أشتري حبة الفاكهة غير الناضجة بـ 7 دولار على مضض، وأصبر عليها يومين لتكون بديلًا عن الطعام".
وإلى القائمين على حملات التوعية عن السرطان بعد مرور أكتوبر الوردي تقول هدى: "أين أنتم من حقوق مرضى غزة، لقد أعنتم الاحتلال على المرضى يا دعاة الإنسانية".
أعراض وليدة الحرب
إيمان أبو زعيتر (21 عامًا) التي تحارب سرطان الرئة منذ 19 سنة بعد فترة من استئصالها لكليتها التي طالها السرطان أولًا، تتحدّث على معاناتها من ضيق التنفس بفعل الغازات السّامّة والمتفجّرات التي يلقيها الاحتلال.
تقول: "تعرّضنا لأشياء غير طبيعية، وبعد خروجي من تحت ركام منزلنا مكثت لثلاث أيام على جهاز التنفس الاصطناعي، ومن ثمّ بدأت تظهر عندي أعراض جديدة لم تكن موجودة سابقًا".
تعيش أبو زعيتر ابنة مدينة دير البلح تجربة مختلفة من المسؤولية، حيث سافر والدها للعمل قبل العدوان، بينما رافقت والدتها أختها الأصغر المصابة بمرض الكلى للعلاج في الخارج، لتُمسي الراعية لأربعة من إخوانها الأصغر، في أصعب اللحظات وأشدّها حاجة للرعاية.
"أكبر مخاوفي هي الفقدان، لدرجة صرت أخاف من فكرة السفر للعلاج بدون أهلي رغم حاجتي الملحة وانقطاع الأدوية"، تقول إيمان، وتضيف: أخاف أثناء تنقلي بين المشافي أن يحدث لهم مكروه، لافتةً إلى أن أعباء المرض في الخيام كانت أشدّ وقعًا عليها.
وتنوّه إيمان أبو زعيتر إلى ارتفاع ثمن العلاجات إلى 10 أضعاف ثمنها الحقيقي، ولجوئها إلى المهدّئات كي تتمكن من النوم والهروب من الألم بفعل انعدام فعاليّة المسكنات، مضيفةً "لم يعد هناك مستشفيات بغزة تلائم مرضى السرطان، والمستشفى التركي الخاص بهم بات ضمن المناطق الخطرة بعد تعرّضه للاقتحام وقتل الاحتلال لمن فيه واعتقال آخرين".
وتؤكّد على معاناتها من المياه الملوثة إلى جانب سوء التغذية، مضيفةً: يمكن أن أفقد حياتي من قلة الأكل مثل كثير من المرضى، لأن جسمي يفقد مناعته وقدرته على المقاومة. وتقول إنّ "نكهة المرض بغزة مختلفة، والموت لم يعد يفرق معنا، وتظلّ صداقة المرض أهون من أذى البشر"، مضيفةً: "من المفترض أن يكون لمحاربي السرطان بغزة عامًا ورديًا كاملًا؛ لكثرة تعرضهم للحروب".
تجربة مسافر للعلاج
أمّا عن سعيد الحمضيات (70 عامًا) فيمكث في مصر منذ قرابة 10 أشهر للعلاج من سرطان البروستاتا وبعض البؤر على العظم، قضى منها أكثر من 4 أشهر في عمارات السبيل بمنطقة العريش لم يتوقف خلالهم عن إطلاق المناشدات، بعدما تُرك إلى جانب آلاف المرضى بلا رعاية صحية في الوقت الذي فقد 6 مرضى حياتهم بفعل الإهمال دون تغطيه إعلامية.
وأكد الحمضيات أن المرحلة الأصعب في رحلة العلاج تمثلت في تجاوز حاجز الدخول إلى جنوب القطاع، وفي ذلك يقول: "لم تكن الممرات الفاصلة بين الشمال والجنوب آمنة وبالرغم من التنسيق المسبق تم قصف إسعاف في نفس اليوم الذي نُقلت فيه إلى مشافي الجنوب بعد وقت وجهد مضاعفين".
وأوضحت شهد رفيقة والدها العشرينية التي انتقلت إلى مصر بعد طول مناشدة أن العلاج الذي تم تقديمه للمرضى لم يكن بالشكل المأمول، مضيفةً: "شعرت أنّ الفرق بين المرضى في غزة وخارجها هي مسألة الأمان فقط!".
وأشارت شهد إلى أن غياب الجهات الداعمة للمرضى جعل بعضهم يبيت دون طعام ولا شراب، وطالبت بالضغط من أجل متابعة المرضى الفلسطينيين بالخارج، معربةً عن حزنها ويأسها الشديدين لافتقاد مرضى السرطان بغزة للدعم النفسي بين أكتوبرين مضوا وهم تحت النار ما أفقدهم العنصر الأهم في مواجهة المرض.
قصّة الطفل إسلام (3 أعوام) واحدة من الأكثر إيلامًا، وحاجّة للسفر. منذ أربعة أشهر وهو في مستشفى الحلو الدولي (خاص) شمال غرب غزة، اكتشفت إصابته بسرطان الدم بشكل مفاجئ بسبب انخفاض الدم. وأطلقت عائلته مناشدات لأجل السّماح له بالسّفر، وذلك لخطورة حالته كما يقول الطبيب المعالج.
يعاني الطفل من سوء في التغذية، ويمضي غالبية وقته على سرير المستشفى بلا تفاعل ودون كلام، ودرجة حرارته غير منتظمة، بالإضافة لانتفاخات في جسمه وقروح بسبب المرض، عدا عن معاناته من مشاكل في الكبد والطحال، كما أن مناعته ضعيفة، ويستقبل أي عدوى ممرضة.
نزفٌ أكبر من السرطان
بدوره يؤكد عوض الهلول استشاري الأورام في وزارة الصحة بغزة ومدير دائرة العلاج في الخارج، على حاجة مرضى السرطان إلى السفر العاجل لاستكمال العلاج.
ويقول إنّ ما نسبته 60 في المئة من إجمالي التحويلات الطبية كانت تذهب قبل العدوان إلى مرضى الأورام السرطانية نتيجة نقص الأدوية والوسائل التشخيصية.
ويُشدد الهلول على كارثية الوضع في القطاع الصحي لافتقاره إلى كافة الوسائل العلاجية والمستلزمات الطبية، لافتًا إلى أن إغلاق المعابر في وجه التحويلات الطبية بات الخطر الأكبر الذي يهدد حياة مرضى السرطان.
ويضيف: "كل من في غزة لا يستطيع إكمال رحلته العلاجية في ظل انقطاع الدواء، وحاليًا يتم تشخيص المرضى وفحصهم عبر وسائل بدائية، وهو ما عرّض المرضى إلى انتكاسات صحية بينما أفقد بعضهم حياته نتيجة لذلك".
وأكد الهلول أن غياب الأطعمة الغنية بالبروتين والفيتامينات التي يحتاجها مرضى السرطان داخل القطاع ضاعف من نقص المناعة لديهم، كما أخّر عملية التشافي. كما أشار إلى دور الغازات السامة المنبعثة من المواد المتفجرة التي يلقيها الاحتلال في ارتفاع نسبة انتشار السرطان بين الغزيين بشكل ملحوظ لا سيما بين النساء.
ويلفت إلى أن التلوث البيئي أحد مسببات الأورام المُثبتة ضمن البروتوكولات العالمية بالإضافة إلى التلوث الإشعاعي وانتشار بعض الفايروسات.
وأضاف: "حاليًا لا أرقام واضحة، ولا نملك أي إحصائية دقيقة حول عدد الحالات المتبقية في قطاع غزة والمستجدة بسبب تشتت المرضى بين مناطق شمال القطاع وجنوبه"، ونبّه إلى وجود مركز تسجيل أورام موحد كان يسجل قرابة ألفي حالة سنويًا قبل العدوان على غزة.
أدوات التشخيص شبه معدومة في قطاع غزة، وقد تتوه الحالات بسبب بساطة وشح أدوات الكشف، ولا يوجد سوى جهاز رنين واحد
وأكد الهلول على مواجهة القطاع الصحي لوابل من الصعوبات القاتلة، مضيفًا أن "أدوات التشخيص شبه معدومة في قطاع غزة، وقد تتوه الحالات بسبب بساطة وشح أدوات الكشف، ولا يوجد سوى جهاز رنين واحد، ولا يمكن إجراء أي تحليل متطوّر مع انقطاع المواد الأساسية، وعدم توفّر العلاجات التي يحتاجها مرضى السرطان، عدا عن غياب العلاج الكيماوي".
كما أشار الهلول إلى معاناة الوزارة من النقص الحاد في الطواقم الطبية التمريضية والتخصصية لاسيما في أقسام الأشعة والجراحات داخل مشافي القطاع عمومًا وفي مناطق الشمال خصوصًا نتيجة ترحيل الكوادر قسرًا إلى مناطق الجنوب واضطرار البعض لمغادرة الوطن.
وبيّن الهلول أن لكل مدة زمنية تحت العدوان خصوصيتها مضيفًا "حاليًا لا يُمكن الوصول إلى المشافي كما تقطعّت أوصال الوطن والمواطن والمريض لا يستطيع الوصول سوى إلى المستشفى المعمداني الوحيد الذي يعمل في شمال القطاع غزة وهذا الأمر فاقم من الضغط على المشفى والأطباء".
لم يعد أكتوبر ورديًا!
يقول الهلول: "لم أكن أتخيّل أن أعيش مثل هذه الحرب الطاحنة، والمخاوف تراود كل إنسان، فالأطباء والمرضى مشتتون، وبعضهم بلا مأوى"، وظروف العمل في المشافي صعبة للغاية، لا سيما وأنّ الجميع أصبح غير آمن على حياته وفي أي لحظة قد يفقدها.
أما عن كيفية مرور أكتوبر الوردي وغزة تحت النار، فقد أكد أن أكتوبر لم يعد بالنسبة لمرضى السرطان ورديًا، بل بات أسود في هذا العام على كل قطاع غزة، موضحًا أن هذا الشهر كان يحمل قبل العدوان العديد من الخدمات التثقيفية الصحية حول السرطان تحديدًا لفئة النساء، لكننا هذا العام نُلملم جراحنا ونربط على نزيفنا، وهناك همٌّ أكبر من السرطان.