عند قراءة كتاب "فقه الجهاد" للشيخ يوسف القرضاوي، والذي قال فيه إنه "ليس من الحكمة ولا الصواب أن ندخل مع العدو معركة فناء وإبادة، إذا كانت القوى غير متكافئة ولا متقاربة. وهذا من واقعية هذه الشريعة، التي تتعامل مع الحقائق على الأرض، ولا تحلِّق في مثاليات ليس تحتها طائل، إنها تعمل أبدًا على جلب المصلحة، وتوقِّي المفسدة. ولها في ذلك فقه رحب عميق، سمَّيناه فقه الموازنات"، نجد تناقضا كبيرا بين ما ورد في كتاب فقيههم ومفتيهم الأعلى وبين أفعالهم وما فعلوه في "طوفان الأقصى" حيث لا يوجد أي تكافؤ يُذكر بين حماس وإسرائيل، وفقا للعقل والمنطق.
فإذا كان هذا شيخهم وفقيههم ومفتي جماعتهم طوال خمسين عاما، يرد على ترهات وافتراءات بعض قياداتهم وخصوصا القيادات الهاربة من غزة وموجودة في الخارج تتنقل بين قصور إسطنبول وقطر، وكل المغامرين وأصحاب المثاليات التي ليس وراءها طائل سوى تدمير الشعوب والأوطان، فهل من مجيب على سؤال أين الفقه في دخول معركة كانت نتيجتها هي مسح غزة عن الخارطة بكل مكوناتها؟، إن كلام القرضاوي يثبت أن قادة حماس على خلاف مع شيوخهم ومنظريهم قبل أن يكون خلافهم مع غالبية شعبنا المدمر.
وفي الوقت الذي تستخدم حركة حماس الأسرى الاسرائيليين ورقة ضغط ومساومة على إسرائيل التي باتت تعتبر هذا الأمر ثانوي وهذا ما يثبه الواقع، تتزايد المخاوف بشأن جدوى هذا النهج على المستوى الإنساني والديني، لا سيما في ظل تفاقم معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فهل من أهمية لإطلاق سراح الأسرى من الناحية الدينية والأخلاقية، وسبل تحقيق ذلك من خلال تسليمهم لمصر لتكون وسيطاً في مفاوضات تضمن حقوقهم وتوقف العنف بحق الشعب الفلسطيني؟
والذي ينظر إلى الواقع الحالي، يجد أن احتفاظ حماس بالأسرى كورقة تفاوضية لم يؤدِ حتى اللحظة لتحقيق نتائج ملموسة تخدم مصالح الشعب الفلسطيني، بل على العكس من ذلك، في ظل ازدياد الوضع الإنساني سوءا مع استمرار الحصار والضغط المتزايد على سكانها، بينما أثبتت أفعال إسرائيل أنها غير مهتمة بالأمر وتراوغ، حتى بات احتفاظ حماس بالأسرى لم يعد يحقق الغايات المرجوة.
ولا ننسى القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية التي تنص على أن "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"، أي إنه إذا كان الاحتفاظ بالأسرى الاسرائيليين سيجلب مزيد من الدمار والقتل والدماء للشعب الفلسطيني، فإن الأولوية هي إيقاف حرب الإبادة، حتى لو كان ذلك على حساب التخلي عن المصالح التكتيكية المؤقتة، خصوصا وأن شريعتنا تؤكد على وجوب الحفاظ على أرواح المدنيين ومنع الإبادة، ورفع مكانة هذا الأمر على أي اعتبارات حزبية أخرى.
وأعتقد بأن إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين أو تسليمهم إلى مصر حلا عادلا ومشرّفا، إذ يُمكّن السلطة الفلسطينية من التفاوض عبر مصر بطريقة تؤمّن حقوق الأسرى الفلسطينيين وتحقق السلامة لهم، دون أن يتعرضوا لمزيد من الخطر.
رغم أنني لست عالما في الدين، إلا أن الشريعة الإسلامية تُحرّم كل ما من شأنه أن يُلحق الضرر أو الدمار بالإنسان دون سبب، لأن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا لأمر واحد هي عبادته وتعمير الأرض والعيش بسلام، لا أن نبحث عن الموت أو نُعرض حياتنا وحياة شعبنا للخطر.
لازلت أذكر شعار أبناء حماس الذين كانوا يرددونه في مناسباتهم ومظاهراتهم وهو "غايتكم.. الموت"، وهو أمر يتعارض مع تعاليم الإسلام، فالإسلام جاء ليحمي الإنسان ويحقق الاستقرار والأمن، لا أن يدفع المؤمنين للموت دون سبب شرعي ومبرر، لهذا نجد أن الحفاظ على أرواح الشعب الفلسطيني أولى وأوجب من أي مكاسب سياسية مؤقتة، خصوصا في ظل الظروف القاسية التي يعاني منها سكان غزة.
لكن، من يقرأ هذا المقال سيقول بأن "إطلاق الأسرى واجب على كل قائد مسلم في الشريعة"، وهذا أمر دعت إليه السنة النبوية، ولكن أليس من الضروري توفر وسائل وطرق تضمن سلامة الأسرى عبر التفاوض الدبلوماسي بعيدا عن العنف، ليصبح استخدام هذه الوسائل ضرورة شرعية، لهذا فإن الاستمرار في الاحتفاظ بالأسرى كأداة للمساومة في سياق لم يعد مجديا سياسيا، تتعارض مع هذا الالتزام وتُلحق الضرر بمصداقية القيادة الإسلامية ومسؤوليتها تجاه شعبها.
في المحصلة، فإن قاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح" يوجب على قادة حماس، إعادة النظر الاستمرار في احتجار الأسرى الإسرائيليين، وإعطاء مصر أو أي دولة عربية وسيطة فاعلة مثل تركيا وقطر تفويضا للتباحث مع إسرائيل بشأن إطلاق سراحهم، وسراح الأسرى الفلسطينيين في المقابل، لأن هناك التزاما شرعيا واخلاقيا تجاه حياة الفلسطينيين الذين يدفعون من دمهم كل دقيقة جراء مغامرة بعض قادة حماس، فهل نجد قيادة حكيمة تضع سلامة أبناء شعبنا فوق أي اعتبار، وتترك مجالا للعقل..أم أن العناد والمكابرة سيستمر؟ نأمل أن نجد صوتا للعقل..