وضعت الحكومة المصرية مصداقيتها على المحكّ، وأصبحت في مأزق خطير، بين غضب المواطنين من الزيادة الهائلة في أسعار السلع والمحروقات وإلغاء الدعم وتكشير صندوق النقد الدولي عن أنيابه، في مواجهة مطالب رئاسية رفعتها للمؤسسة المالية الدولية عبر الصحف، لم تصل رسمياً إلى مقر الصندوق في العاصمة الأميركية واشنطن.
قال اقتصاديون لـ"العربي الجديد" إن إعلان الحكومة عن مراجعة برنامج الإصلاح الاقتصادي الموقع مع صندوق النقد، بعد ستة أشهر من توقيع الاتفاق، يضعها أمام اختبار ثقة ومصداقية بين المؤسسات المالية الكبرى والدولة الداعمة للاقتصاد، في وقت فقدت فيه الحكومة ثقة مواطنين وعدتهم بعبور الأزمة المالية الخانقة، منذ سنوات، لتمرير اتفاق أخير مع الصندوق استغرق الوصول إليه نحو عامين.
ويشمل الاتفاق الالتزام برفع كامل الدعم عن المحروقات والكهرباء، خلال 15 شهراً، وتحويل الدعم العيني إلى نقدي، وتحرير سعر الصرف، وبيع الأصول العامة، مقابل ثمانية مليارات دولار وشهادة ضمان تمنحها سرعة الوصول إلى أسواق المال.
تراجع حكومي وسط غضب شعبي
صرّح مصدر اقتصادي شغل مناصب حكومية رفيعة، يرفض الإفصاح عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، بأن تراجع الحكومة عن اتفاق صندوق النقد سبق أن مارسته 3 مرات، بدأت عام 2018، عقب حصولها على 12 مليار دولار من الصندوق، مقابل تعهد بتحرير سعر الصرف، وتوجيه الأموال لمشروعات إنتاجية تستهدف زيادة النمو، أعقبته اتفاقات أخرى عامي 2020 و2022، لإنقاذ البلاد من آثار أزمة انتشار وباء كورونا ومواجهة تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا.
أوضح المصدر أن التراجع المتعدد من الحكومة، دفع صندوق النقد إلى وضع شروط مسبقة وحصوله على تعهّد كتابي مسبق من الحكومة على تقديم القرض الجديد، خلال شهري مارس/ آذار ويونيو/ حزيران الماضيين، بما يضمن عدم الالتفاف على الاتفاق بصورة نهائية، ويغلّ قدرتها على الفكاك من شروطه، بدون أن يخلف آثاراً خطيرة على الاقتصاد، تشمل توقف الدول الداعمة للاقتصاد من الخليج والاتحاد الأوروبي والبنكين الدولي والأفريقي، عن استئناف أية تمويلات جديدة للموازنة العامة وأية مشروعات بضمانات حكومية.
مفاوضات صعبة مع صندوق النقد
أكد المصدر أن المفاوضات مع الصندوق لن تكون سهلة، هذه المرة، إذ حصلت مديرته التنفيذية كريستالينا غورغيفا على توبيخ واسع من مجلس المديرين بالصندوق خلال عامي 2022 و2023، لتساهلها مع الحكومة، أسفر عن عدم الالتزام بتعهداتها السابقة مع الصندوق، والتي خلّفت تراكماً لنفس المشكلات التي تعاني منها مصر، تشمل تراجع العملة وزيادة التضخم والغلاء وارتفاع معدلات الفقر، على مدار 10 سنوات، بما أساء إلى الصندوق، وهو الأمر الذي دفعها إلى القدوم على رأس وفد رفيع المستوى إلى مصر، خلال الأسبوع المقبل، لتصل إلى حلٍّ حاسم حول موقف الحكومة من الاتفاق الأخير، دون إجراء أي تغيير جوهري عليه.
وأعلنت غورغيفا أنها سترأس وفداً من خبراء الصندوق، مغلفة تصريحها بتهديد واضح بأن الصندوق لن "يستطيع أداء عمله على النحو اللائق حال تخلي السلطات المصرية عما يجب فعله، لأن التكلفة ستكون أعلى، بينما تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي سيجري عاجلاً أم آجلاً".
يتوقع خبراء الصندوق ارتفاعاً مستمراً لفترة بأسعار السلع عالمياً، بما يزيد من الأثر الاقتصادي السلبي الناجم عن تباطؤ النمو وارتفاع الديون السيادية، في ظل تباطؤ النمو العالمي وحالة عدم اليقين الشديد بشأن الحروب في الشرق الأوسط وأوروبا والاقتصاد الصيني المتعثر، مؤكدين أن برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري صمم للتعامل مع الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة، بما يتيح للحكومة التعامل مع الصدمات الجديدة، الخاصة برفع الدعم السلعي وتحرير سعر الصرف.
في طريق يسوده الغموض وكثير من التناقضات، تنتظر الحكومة شهادة صندوق النقد، بما يضمن لها تدفق العملة الصعبة عن طريق الدول والمؤسسات المالية الدولية، الداعمة للاقتصاد، وفقاً للاتفاق المسبق مع صندوق النقد، والاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر، الباحث عن شهادة صلاحية الأداء من الصندوق، وعوائد مجزية على أذون الخزانة، وفائدة هي الأعلى قيمة عالمياً تبلغ 30% حالياً.
وفي الوقت نفسه تخشى الحكومة من أن تمسّك الصندوق بالإسراع في إلغاء الدعم النقدي للسلع التموينية، اعتباراً من يوليو/ تموز القادم، وبيع المحروقات والكهرباء بسعر التكلفة، بنهاية 2025، قد يُثير موجات اضطرابات اجتماعية خطيرة، بما دفعها إلى مطالبة الصندوق بمراجعة توقيتات تنفيذ الإصلاحات.
غياب رؤية اقتصادية واضحة
اتهم اقتصاديون الحكومة بأنها لا تمتلك أية رؤية اقتصادية، بما يوقعها تحت سيطرة صندوق النقد والمؤسسات الدولية، التي تهتم بالاستيلاء على ما تبقي للمصريين من ثروات.
يقترح خبراء اقتصاد أن تُركز الحكومة مع الصندوق على تسريع بنود أخرى في الاتفاق، والتي تشمل بيع الأصول الحكومية وشركات الجيش ذات الأعمال المدنية، للقطاع الخاص، لضمان تدفقات مالية تمكنها من مواجهة الأعباء المالية وسداد التزاماتها الدولية، مقابل تأجيل رفع الدعم السلعي وزيادة المدة الزمنية لرفع أسعار المحروقات، بما يضمن تباطؤ معدلات التضخم، ويزيل التشوّهات السعرية، التي أحدثتها الزيادة الكبيرة بأسعار الطاقة والكهرباء.
يؤكد خبير التمويل والاستثمار وائل النحاس وجود أخطار اقتصادية في حالتي التراجع عن الاتفاق، أو التحول عنه بصفة نهائية، مبيناً لـ "العربي الجديد" وجود التزامات مالية كبيرة على الحكومة، تجعل مواردها رهينة موافقة الصندوق على برنامج الإصلاح الاقتصادي، وبدونها لن تستطيع الحكومة الحصول على تمويلات من الجهات الدولية، لسدّ العجز في الموازنة العامة ودفع فوائد ومستحقات الديون الخارجية.
أوضح النحاس أنه رغم الشروط القاسية لقروض صندوق النقد، التي خلفت ضغوطاً شديدة على المواطنين، إلا أنه نجح في إجبار الحكومة على وقف السحب على المكشوف من البنوك العامة، ويدفعها إلى حوكمة البنك المركزي، ووقف طباعة النقود، وساعدها على تحسين موقفها التفاوضي من مؤسسات التمويل الدولية، للحصول على قروض رخيصة ومساعدات.
ذكر النحاس أن الخلافات بين الحكومة والصندوق غير مرتبطة بارتفاع الأسعار التي تتسارع بوتيرة أعلى من المعدلات التي يطلبها الصندوق، مبيناً أن الصندوق يطالب الحكومة بأن تتوقف عن طلب المزيد من القروض، التي توجه لمشروعات غير إنتاجية، وعدم مبادلة الديون بالأصول، ليتم طرح الأصول للبيع بالبورصة والمستثمرين لجذب الاستثمار المباشر، بما يضمن زيادة معدلات النمو وفرص العمل، وعدم الاكتفاء بتخفيض الدين عبر مبادلات غير مدرة للعملة الصعبة.
سعر الدولار نحو صعود جديد
أكد النحاس أن الخلافات مع الصندوق قد تدفع سعر الدولار إلى الصعود بمعدلات غير محددة، محذراً من تأثر الأسواق بحالة عدم وجود رؤية لدى الحكومة لمواجهة الأزمة في حالة عدم اتفاقها مع الصندوق، بالتوازي مع ضبابية الأوضاع الجيو- سياسية بالمنطقة، بما يدفع الحكومة إلى التماس نفس الأعذار لرفع أسعار المحروقات والسلع، بما أثر بشدة على قدرة المواطنين على توفير مستلزماتهم اليومية، ودفع تكلفة الانتقال إلى مدارسهم وأعمالهم.
حمّل خبراء الحكومة توابع اتفاقها مع صندوق النقد، بحرصها الدائم على الترويج له، دون الاستماع إلى نصائح المختصين المشاركين في منتديات الأحزاب والبرلمان و"الحوار الوطني" والجامعات، مشيرين إلى إخفاء الحكومة كافة تفاصيل الاتفاق مع الصندوق، عن المختصين والمواطنين.
ينوه الخبراء إلى أنه كان من الأولى أن تجري الحكومة مشاورات مع صندوق النقد، في الغرف المغلقة، قبل أن تثار أمام الرأي العام، لأنه في حالة فشلها في تغيير مسار الاتفاق بما يخفف عن كاهل المواطنين، فلن تنال ثقة الشعب مرة أخرى، وإذا ما رفض صندوق النقد مطالبها، سيترتب على القرار آثار شديدة المخاطر على الاقتصاد، تدفع بمزيد من الآلام على المواطنين، غير المستعدين لتحمل تبعات أكثر إيلاماً.