يفترش الفلسطيني سالم سعيد (58 عامًا) الأرض أمام بوابة أحد البنوك في حي تل السلطان بمدينة رفح جنوبي قطاع غزة، ليحجز دوراً في طابور طويل، في محاولة لسحب راتبه الشهري من ماكينة الصراف الآلي.
يبدي سعيد - وهو موظف حكومي - امتعاضه الشديد من فشل محاولاته المتكررة على مدار أسبوع كامل لاستلام راتبه، بسبب الازدحام الشديد على ماكينة الصراف الآلي.
وخلال الحرب المتواصلة، دمر الجيش الإسرائيلي الغالبية العظمى من البنوك وأجهزة الصراف الآلي في جميع أنحاء قطاع غزة، وفق بيان سابق لسلطة النقد الفلسطينية في رام الله.
وبات الفلسطينيون يعيشون أزمة سيولة مالية خانقة بسبب الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، ومنع إسرائيل دخول ونقل الأموال.
سلطة النقد الفلسطينية أعلنت مطلع نيسان/ أبريل الجاري عن تعذر فتح فروع البنوك لعمليات السحب والإيداع في محافظات قطاع غزة كافة، بسبب القصف والظروف الميدانية القاهرة وانقطاع التيار الكهربائي والواقع الأمني.
وقالت في بيان إن أزمة السيولة تفاقمت مع خروج معظم أجهزة الصراف الآلي عن الخدمة.
تجار الحروب
يقول سعيد إنه "لم أستطع سحب راتب شهر فبراير (شباط) حتى اليوم، بسبب الازدحام الشديد وعدم توفر السيولة النقدية".
ويضيف أنه "بعد فشل محاولاتي السابقة لاستلام الراتب قررت هذه المرة التوجه إلى البنك والبقاء هناك إلى حين استلام الراتب، حتى لو اضطررت للنوم أمام بوابة البنك".
ويبين أنه خلال الأشهر الماضية اضطر لاستلام راتبه من محلات الصرافة، مقابل حسم بنسبة بلغت 5 بالمئة ثم أصبحت 15 بالمئة والآن يطلبون نسبة 20 بالمئة.
الرجل يطالب سلطة النقد بإيجاد حل للأزمة التي فاقمت ظروف النازحين وزادت الأمور تعقيدًا، بسبب عدم قدرتهم على استلام رواتبهم وأموالهم المودعة في البنوك.
ولم يتمكن الموظفون من سحب رواتبهم بسبب الاكتظاظ أمام أجهزة الصراف الآلي وحالة الفوضى أمام البنوك التي تعجز بدورها عن فتح أبوابها أمام العملاء.
وعلى قارعة الطريق الرئيس بمدينة رفح، يجلس أحمد السويركي (41 عامًا) أمام طاولة خشبية يعرض عليها مواد تموينية ومعلبات غذائية للبيع.
يقول السويركي الذي كان يعمل مبرمجًا، إنه "توقفت عن العمل بعد نزوحي من غزة بسبب انقطاع الكهرباء ولعدم توفر الإنترنت المناسب، ويوجد في حسابي البنكي مبلغ من المال لا أستطيع سحبه بسبب عدم توفر السيولة النقدية".
ويضيف أنه "في البداية لم أكن أعرف ماذا سأفعل، لكن بعد ذلك قررت افتتاح بسطة (طاولة بسيطة لعرض السلع) بدأت أبيع عليها المساعدات التي استلمتها ثم توسعت في ذلك وأصبحت أشتري موادا غذائية وأبيعها للنازحين".
ويوضح أن هناك الكثير من الغزيين لا يستطيعون توفير قوت يومهم لعدم تمكنهم من استلام أموالهم من البنك، وآخرين لعدم وجود دخل يعتاشون منه.
ولا يختلف حال سامح فارس عن سابقيه، إذ لم يعد بإمكانه استلام الحوالات المالية التي وصلته من أقاربه في الخارج في ظل أزمة السيولة الخانقة.
ويقول فارس أنه "لا أعرف كيف سأعيش وكيف سأغطي مصروف العائلة، الأموال موجودة في حسابي البنكي ولا أستطيع استلامها".
انعكاس طبيعي للحرب
الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب يقول إن أزمة السيولة النقدية تعد انعكاسًا طبيعيًا للحرب الإسرائيلية المتواصلة للشهر السابع، ونتيجة لتوقف الدورة المالية والاقتصادية في غزة بشكل كامل.
يوضح أبو جياب أن الحركة التجارية لم تعد قائمة بشكلها الطبيعي، والقطاع التجاري والصناعي لم يعد فاعلاً، والمنظومة المصرفية معطلة بشكل كامل، ودورة الأموال لم تكتمل ولم تعد تدور دورتها الطبيعية كما كانت قبل الحرب.
ويبين أن عمليات إيداع السيولة النقدية في البنوك توقفت من قبل العملاء سواء كانوا مواطنين أو تجار، فأصحاب البسطات العشوائية والتجار الجدد في الأسواق هم من يملكون السيولة النقدية ولا يودعونها في البنوك وبالتالي خروجها من المصارف دون رجعة.
الاتجار بالمال
وبحسب أبو جياب، فقد تسبب ذلك بخلق أزمة في السيولة النقدية وشح في السوق المالية والبنوك والنظام المصرفي ما دفع البعض ممن يمتلكون السيولة للاتجار بالمال.
ويصف الخبير الاقتصادي ذلك بأنه "عملية صرف حقوق المواطنين وإيداعاتهم المالية على نظام البنكي الإلكتروني، لكن مقابل نسب مالية كبيرة وكبيرة جدا".
ويشير إلى الانعكاسات الخطيرة لهذه الأزمة المالية بعد فشل محاولات سلطة النقد لإدخال السيولة إلى قطاع غزة نتيجة عدم قدرة المواطنين على الاستفادة من أموالهم المودعة في البنوك في ظل أوضاع اقتصادية صعبة للغاية.
ويحذر من توقف النظام المصرفي عن العمل بشكل كامل خلال الأيام المقبلة في حال استمرت الأزمة دون حلول، ناهيك عن القضاء على الأسواق المحلية وعلى القدرة الشرائية في قطاع غزة.
وعلى الرغم من أن البنوك في فلسطين تخضع لإشراف سلطة النقد الفلسطينية إلا أنها تبقى تحت هيمنة شبه مطلقة لبنك إسرائيل المركزي، ويعتبر الشيكل الإسرائيلي العملة الرئيسية في فلسطين، وفق الخبير أبو جياب.