لماذا احتجاجات الجامعات الأميركية مهمّة للقضية الفلسطينية؟

مشهد غير اعتيادي وغير متوقع في 2024؛ آلاف الطلبة وغيرهم "ينتفضون" في جامعات أميركية من أجل فلسطين وضدّ حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزة، خاصة داخل أروقة الجامعات العريقة التي لطالما كان لها علاقات وطيدة مع الاحتلال، مثل "كولومبيا" و"ييل" و"هارفارد". 

قد تبدو هذه الاحتجاجات، التي واجهتها الجامعات والشرطة بالقمع، آنية ولحظية ودون أفق. إلّا أن تاريخ عمل الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية يثبت غير ذلك، وقد تكون هذه التظاهرات واحدة من أهم "التحولات" في الرأي العام الأميركي بخصوص القضية الفلسطينية، بعد السابع من أكتوبر 2023. 

ولكن هل من المحتمل أن تستمر هذه الاحتجاجات حتى تحقيق تغيير فعليّ في السياسات والممارسات التي تؤثر على السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية؟ خاصة أن الجامعات في الولايات المتحدة تمتاز بتنوّع واسع في الطلاب والمجتمع الأكاديمي، وتطرح نفسها دومًا على أنها "مركز التفكير الحر والنقاش الديمقراطي". ومن وجهة نظر الطلبة، فإن الاحتجاجات تعكس حقّاً متجذرًا في "قيم العدالة والحرية التي تشكل أساسًا للمجتمع الأكاديمي". 

وانتشرت الاحتجاجات حاليًا في ما لا يقل عن 14 حرمًا جامعيًا ولا يزال العدد في ازدياد، وهي: جامعة كولومبيا، وجامعة جنوب كاليفورنيا، جامعة تكساس في أوستن، وجامعة جورج واشنطن، وجامعة هارفرد، وجامعة ولاية كاليفورنيا للفنون التطبيقية- هومبولت، وكلية إيمرسون، وجامعة نيويورك، وجامعة ايموري، وجامعة نورث وسترن، وجامعة ييل، ومعهد الموضة للتكنولوجيا، وكلية مدينة نيويورك، وحرم جامعة ولاية ميشيغان الشرقية في لانسينغ، وجامعة كونيتيكت. 

تمكّن طلاب الجامعات الأميركية من مواجهة العنصرية والتمييز وفرض التغيير على ساحة السياسة المحلية. لنأخذ على سبيل المثال حركة الحقوق المدنية في الستينيات، والتي احتج فيها طلاب الجامعات على سياسة التمييز العنصري في الجامعات وناضلوا من أجل الحقوق المدنية. ففي عام 1960، جلس أربعة طلاب سود من جامعة ولاية كارولينا الشمالية (إيه آند تي) على طاولة غداء "للبيض فقط"، وهو الفعل الذي ألهم آلاف الطلاب للانضمام إلى حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.

كما أن نشطاء الحرم الجامعي ناضلوا من أجل العاملين في الجامعات أيضًا، إذ في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، دعا الناشطون في جامعة ميامي وجامعة جورج تاون إلى زيادة أجور عمال النظافة في جامعاتهم، فيما بدأ طلاب جامعة تافتس إضرابًا عن الطعام احتجاجًا على تسريح عمال النظافة في عام 2015.

غير أن أبرز الحركات التي تولاها الطلبة، هي الاحتجاجات على سياسة بلادهم الخارجية، إذ في الأعوام ما بين 1969 و 1970، نظم الطلاب في الجامعات الأميركية اعتصامات رافضة لحرب فيتنام، دفع خلالها الطلاب المناهضين للحرب العديد من الجامعات إلى الحدّ من برامج استقطاب الجنود داخل الحرم الجامعي. وفي عام 1969، أضرب 10 آلاف طالب في جامعة هارفارد، هذا الضغط دفع الجامعة العريقة لخفض مستوى برنامج تجنيد ضباط الاحتياط.

وعلى شاكلة ما يحدث الآن من استدعاء لقوات الشرطة الأميركية، الذي خلق ردة فعل عنيفة من المتظاهرين ضد إدارة جامعاتهم، فإن السيناريو ذاته تكرر حينما تظاهر الطلبة ضد حرب فيتنام. إذ استدعت الإدارة الشرطة المحلية والحرس الوطني لقمع الطلبة، وعندما تم إبعاد المتظاهرين واعتقالهم بقسوة، انقلب الرأي المحايد في الحرم الجامعي ضد الإدارة، وقاطع الطلاب الفصول الدراسية. 

وفي ما أصبح لحظة حاسمة في تاريخ الولايات المتحدة، قُتل 4 طلاب غير مسلحين، وأصيب 9 آخرون أثناء احتجاج في جامعة ولاية كينت بعد أن فتح الحرس الوطني في أوهايو النار في الرابع من مايو/أيار 1970.وكان المحتجون يتظاهرون ضد التوسّع الإضافي للولايات المتحدة في كمبوديا، وأدى مقتل الطلبة إلى إضراب طلابي جماعي في أكثر من 450 حرمًا جامعيًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة، تحوّل الكثير منها إلى احتجاجات عنيفة، كما أثّرت بشكل كبير على الرأي العام الأمريكي فيما يتعلق بحرب فيتنام. 

ونظم الطلاب الناشطون في الثمانينيات مسيرة ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مطالبين الجامعات بقطع جميع علاقاتها مع الحكومة العنصرية التي كانت تحكم البلاد آنذاك. وفي جامعة كولومبيا، احتل النشطاء مبنى أكاديميًا لأسابيع حتى باعت الجامعة أسهمها في شركات مرتبطة بجنوب أفريقيا، الأمر الذي ألهم عشرات الجامعات الأخرى.

وكانت هذه الاحتجاجات حاسمة بالنسبة للمسؤولين لسحب مليارات الدولارات من الاستثمارات من الشركات المرتبطة بجنوب إفريقيا، وهو مطلب مشابه للمطلب الذي قدّمه المتظاهرون تجاه الاحتلال حاليًا. وبمرور الوقت، ساهم الضغط الاقتصادي الناتج عن سحب الاستثمارات في انهيار نظام الفصل العنصري في نهاية المطاف في أوائل التسعينيات.

يُبدي الشباب الأميركي تعاطفًا متزايدًا مع الفلسطينيين منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وذلك بحسب ما بينته استطلاعات الرأي الأخيرة، وخاصةً في الفئة العمرية بين (18 - 29 عامًا)، حيث يُظهر 61 في المئة منهم تعاطفًا إيجابيًا تجاه الفلسطينيين، في حين تصل نسبة التعاطف تجاه الإسرائيليين إلى 56 في المئة،  فيما بيّن استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب في شهر آذار/ مارس أن نحو 55 في المئة من الأميركيين لا يوافقون على الرد العسكري الإسرائيلي في غزة، وهو ما يمثل زيادة قدرها 10 نقاط مئوية منذ شهر تشرين ثان/ نوفمبر.

كما يدفع الجيل الجديد من الأميركيين العرب إلى تسرب خطاب نقدي يفند التحالف الأميركي مع الاحتلال. وفقدت شعارات مثل "حق إسرائيل في الوجود"، أو اتهامات "معاداة السامية" مكانتها لدى الطلبة في الجامعات الأميركية، وبدلًا منها ظهرت انتقادات لاذعة لسياسات "إسرائيل".

يدفع الجيل الجديد من الطلبة الأميركيين العرب السردية الفلسطينية متجاوزًا اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة

وقد أثبتت هذه الاحتجاجات الطلابية، تاريخيًا، أن الطلبة تمكنوا غالبًا من الحصول على قائمة الطلبات التي قدموها؛ مثل التأثير على الرأي العام فيما يتعلق بالحرب على فيتنام، أو قبول المزيد من طلاب الأقليات أو إنشاء قسم للدراسات الأفريقية. 

والآن وبشكل تدريجي، تظهر نتيجة الضغط الطلابي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، بدءًا من انضمام بعض أعضاء الهيئة الأكاديمية للاحتجاجات، حتى إعلان جامعة كاليفورنيا وقف استثماراتها مع شركات إسرائيلية، وهو القرار الأول من نوعه منذ بدء الاحتجاجات. 

كل هذا يشير إلى تغيّر في التفكير والوعي بين الشباب الأميركي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا أن تأثير الاحتجاجات ونتائجها على السياسة الأميركية قد يكون مختلطًا، ويحتاج إلى مزيد من الحذر بين النشطاء.  

وترى الصحفية الأميركية ميشيل زيناروز، أن التاريخ يثبت أن الطلاب سيستمرون في خوض المجازفات التي لم تخضها الأجيال الأكبر سنًا، ما يجبر عامة الناس على "مواجهة قضايا غير مريحة مثل الحرب على غزة"، لكن نشاطهم غالبًا ما يكون له ثمن، مضيفة أنه يمكن للجامعات أن تفصل الطلاب، وكما يظهر التاريخ، فإن ما هو أسوأ بكثير قد يحدث. 

غير أنها تؤكد أنه ليس من المعروف حتى الآن أين سينتهي هذا الأمر، لكنّه لم ينته بعد مع استمرار حركة الاحتجاج الطلابية من أجل فلسطين في اكتساب الزخم، وانتشارها كالنار في الهشيم عبر الجامعات في الولايات المتحدة.