يقول مواطنون ظلّوا حتى قبل يومين متواجدين في إحدى مدارس مخيم الشاطئ باعتبارها ملجأ بدل منازلهم وأحيائهم السكنية التي تعرضت لتدمير واسع من قبل الطائرات والزوارق الحربية الإسرائيلية، للتغطية على التوغل البري، أنهم نجوا بأعجوبة وعوائلهم من الموت بالصواريخ، والجوع لعدم توفر الطعام، قبل أن يتمكنوا كآخرين من النزوح إلى مناطق جنوب قطاع غزة، ضمن رحلة خطرة، عاشوا فيها لحظات الموت ألف مرة، في طريق تسيطر عليه تلك القوات العسكرية.
مدارس بلا إيواء
هؤلاء المواطنون، الذين قابلتهم صحيفة القدس العربي ، لجأوا مع بداية الهجمات العسكرية العنيفة للطيران الحربي الإسرائيلي على المخيم، والتي توسعت بقصف من الزوارق والقطع العسكرية البحرية، التي تتواجد أمام الشواطئ على مدار الساعة، وظل هؤلاء حتى الأسبوع الأول للحرب، يعاملون خلال تواجدهم في أحد
مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، على أنهم في “مركز إيواء”، فيتلقون القليل من الطعام والماء، بإشراف موظفي تلك الوكالة، حتى أصدر جيش الاحتلال تحذيره، وطالب سكان مدينة غزة والشمال، للتوجه إلى مناطق جنوب وادي غزة.
بعد هذا التهديد العسكري الإسرائيلي، خرج عدد قليل من هؤلاء إلى مناطق الوسط والجنوب في القطاع، وتحملوا أعباء الخروج وتكلفته الباهظة في ظل الافتقار إلى وجود وسائل النقل، فيما بقيت الغالبية العظمى منهم في المخيم، معتقدين أن الأمر غير جدي، وأنه مجرد تهديد، وأنهم سيبقون آمنين في المدرسة باعتبارها تابعة لوكالة دولية، وباتت “مركز إيواء”.
لكن أولى المفاجآت والصدمات التي تعرّضوا لها كانت ترك “الأونروا” مهمتها بشكل كامل في مناطق غزة والشمال، وترك عملية الإشراف على “مراكز الإيواء”، والطلب من قاطنيها تدبير أمورهم بمفردهم.
ويقول محمد برس، الشاب الذي كان وأسرته وبعض أشقائه وأسرهم يقيمون في إحدى المدارس هناك، رغم أن جزءاً من عائلته غادر إلى جنوب وادي غزة، إن بعد ترك “الأونروا” مهمة الإشراف، ومغادرة موظفيها المدرسة والمدارس القريبة منهم، تبدل الأمر رأساً على عقب.
ويضيف لـ “القدس العربي” بأنهم اعتقدوا أن الأمر لن يطول، وأنه في الأيام الأولى، أي في بدايات الأسبوع الثاني للحرب، التي بدأت في السابع من الشهر الماضي، كانوا يتوقعون أن تعود “الأونروا” لمهمتها، وكانوا يعتقدون أن مدرسة ترفع علم الأمم المتحدة يمكن أن تكون أكثر أمناً من منازلهم، التي إما دمرت في ذلك المخيم الصغير، أو تعرضت لضرر بليغ جعلها لا تصلح للسكن.
ويستمر في سرد قصته المأساوية، ويقول: “يومياً كانت ترد أنباء لأشخاص يقيمون برفقتهم في تلك المدرسة عن استشهاد أفراد من أسرهم، كان الحزن والخوف يخيّم على الجميع، وصرنا نتوقع الأسوأ”.
ويشير إلى أنه في الأسبوعين الأولين من ترك “الأونروا” مهمتها في المدرسة، وتحديداً قبل بدء العملية التوغل البري لجيش الاحتلال، ووصوله في بداية الأمر إلى أطراف المخيم، كان الجميع من جيرانه في المدرسة يتدبّرون بصعوبة أمور طعامهم وجلب ماء الشرب، من محال قريبة، ويقول كان الأمر أيضاً صعباً على الجميع، في ظل عدم امتلاك المال اللازم للشراء.
وكان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة انتقد “الأونروا” لتركها مهمة الإشراف على “مراكز الإيواء” في مدينة غزة وشمالها، وترك النازحين إليها بلا رعاية.
الموت جوعاً ومرضاً
ويضيف محمود: “بعد بدء التوغل تبدّلَ كل شيء، زادت الغارات الجوية، وطالت واحدة مدرسة قريبة”، وقد زاد الأمر من حالة الخوف الشديد عند هذه الأسر، وخاصة الأطفال والنساء، ولم يعد هناك أحد قادراً على مغادرة بوابة المدرسة، كما كان الوضع في الأيام السابقة.
وفي ذلك الوقت، بدأ الطعام المتوفر لديهم من معلّبات بالنفاد، بعد نفاد بعض الخضروات، ولم يتبقّ إلا كميات قليلة من الأرز وكميات شحيحة من الماء، وبات الجميع هناك عاجزين أمام جوع وعطش الأطفال، وظنوا أن من بين الأطفال الذين أصيبوا بإعياء شديد ونزلات برد، من سيفارقون الحياة إما جوعاً أو مرضاً، وكان الجميع أيضاً يمضي الوقت وهو يتوقع أن يقضي في أي لحظة جراء غارة إسرائيلية.
ويشير أحد جيرانه الذين رافقوه في رحلة النزوح الإجباري إلى جنوب وادي غزة، ويعمل موظفاً في مؤسسة فلسطينية، أنهم اضطروا، في الأيام الأخيرة، إلى “نقع الرز”، من خلال وضع كميات قليلة من الأرز في وعاء به ماء، وتركه لساعات حتى يصبح طرياً بعض الشيء ومن ثم إطعامه أولاً للأطفال، ومن ثم يقومون هم بأكل ما تبقى من كميات قليلة جداً، حيث لم يكن في المدرسة ما يمكن أن يوقد للطبخ.
ويواصل حديثه: “كان الأطفال على مدار الساعة يشتكون من الجوع، كنا ننظر إليهم بنظرة العاجز”، ويضيف: “كنت أتقطع حين كان أطفالي يبكون جوعاً، لم يكن لدي ما أملكه، والجميع منا شعر بالعجز”.
وأوضح محمود أنه في تلك الأيام القاسية اضُطر، كما باقي الجيران في المدرسة، إلى تقسيم زجاجة ماء ذات سعة لتر واحد، على أسرته المكونة منه ومن زوجته وخمسة أطفال، على مدار يومين كاملين، وكانوا وفق تعبيره “يبلون ريقهم”، لا يروون عطشهم.
وتجدر الإشارة إلى أن سلطات الاحتلال، التي سمحت منذ بداية الحرب بمرور أكثر من 500 شاحنة مساعدات لقطاع غزة، وهي كميات قليلة جداً، منعت وصول أي من هذه المساعدات لسكان مدينة غزة وشمالها، واقتصرتها على مناطق الوسط والجنوب.
وهذه الكميات من المواد التموينية والطبية التي دخلت، على مدار الأيام الماضية، كانت تدخل إلى قطاع غزة يومياً، ما يعني أنها لا تكفي احتياجات السكان الذين يعانون من ويلات الحرب والحصار.
ولم تكن هذه فقط مأساة من تواجدوا في تلك المدارس، فقد اشتكت النساء من عدم وجود حليب أو حفاظات لأطفالهن الرضع، ما جعل الكثيرين منهم يصابون بمغص شديد، بعد اضطرارهن لإطعامهم من ذلك الأرز، علاوة عن أمراض جلدية أصابتهم لعدم امتلاك أي من وسائل النظافة الخاصة بالأطفال، وعدم وجود مياه للاستحمام.
وقالت إحدى السيدات اللواتي كانت برفقة أسرة نجلها، إنهن لجأن لاستبدال الحفاظات المصنوعة من القطن للأطفال، بقطع من القماش، وتصف تلك السيدة، وهي في منتصف العقد الخامس، تلك الأيام بأنها كانت “الأسوأ في حياتها”، وتقول: “عايشت حروباً وانتفاضة وأحداثاً أخرى، لكن لم أشاهد أوضاعاً كهذه من قبل، إحنا أموات بنتحرك”.
وقد اضطرت هذه الأسر، منذ ثلاثة أيام، لمغادرة تلك المدارس، بناء على منشورات ألقتها طائرات إسرائيلية فوق المخيم، أبلغهم فيها جيش الاحتلال عن وجود “طريق آمن”
ويريد جيش الاحتلال، وفق الخطة العسكرية التي ينفذها ضد قطاع غزة، دفع سكان غزة والشمال للتوجه إلى مناطق جنوب وادي غزة، وهو أمر خطير جداً، ويعني ذلك أن قطاع غزة بمساحته الكلية الضيقة (360 كيلومتراً مربعاً)، والذي يعد الأكثر كثافة سكانية في العالم، حيث يقطنه نحو 2.4 مليون نسمة، انتقال سكان شمال الوادي، وعددهم نحو 1.1 مليون نسمة، للمناطق الأخرى التي تشكل مساحتها نحو نصف مساحة القطاع.
وفي حال طبقت الخطة بالكامل، فإن مناطق الوسط والجنوب بمنازلها ومدارسها وساحاتها وجميع مراكزها، لن تكون قادرة على استيعاب هذا العدد الكبير من النازحين.
رحلة في طريق الموت
وبالعودة إلى قصة الناجين من الموت، الذين كانوا يتواجدون في مدارس “الأونروا” بمخيم الشاطئ، فقد خرج الجميع من هناك، وتوجهوا في البداية شمالاً إلى حي النصر، ومن ثم ساروا على الأقدام في رحلة طويلة بدأت مع ساعات الصباح الأولى إلى حي الزيتون شرق المدينة، حتى وصلوا إلى شارع صلاح الدين.
وعلى غرار مَن رووا قصتهم لـ “القدس العربي” في رحلة النزوح، سار هذا الحشد من سكان الشاطئ، وآخرين من أحياء عدة في مدينة غزة، وسكان قدموا من مناطق الشمال بعد أن تجمعوا في ذلك الشارع الرئيس، وهو يحملون بين أيديهم أطفالهم ورايات بيضاء، ويمرّون كما من سبقهم بجوار جثث شهداء قضوا في رحلة النزوح.
ويؤكد سكان من النازحين الجدد أنه في بعض مقاطع الطريق، كانوا يمرون بصعوبة من بين الجثث لكثرتها، في مشهد تألم منه الجميع، وأثار فزعاً لدى الأطفال والنساء، ويقول محمود إنه كان يغمض بيديه، وكذلك زوجته، أعين أطفاله حتى لا يروا تلك المشاهد المؤلمة.
وحسب روايات النازحين، فإن عملية المرور من ذلك الطريق الخطير، والذي وصفه أحدهم بـ “طريق الموت”، تكون من العاشرة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر، وأن أي شخص يقدم قبل أو بعد هذا الوقت يستهدف بإطلاق النار.
وقال رجل قدم وأسرته من شمال قطاع غزة، إنه شاهد في رحلة النزوح جثث شهداء مقطعة وسيارات متفحمة، وقالت زوجته التي كانت تسير بجانبه: “شاهدنا ناس مقطعة وجثث الشهداء ملقاة على الأرض”، وكان هذا الرجل يحمل على كتفه أحد أطفاله، فيما كانت الزوجة تمسك بالآخرين من أياديهم، وقد فاضت عيونها من البكاء لحظة ما بدأت بالحديث من شدة أهوال الطريق.
وقد اضطرت عائلات نازحة لم يسعفها الوصول من مكان سكنها سواء في مدينة غزة أو الشمال، إلى نقطة الانطلاق على شارع صلاح الدين لقطع المسافة الخطيرة التي يتواجد فيها جيش الاحتلال إلى العودة من حيث قدمت، رغم سيرها لأكثر من ثلاث ساعات، وعادت المحاولة من جديد في اليوم التالي.
ورحلة الخروج من غزة والشمال، في حال أمكن تحمّل الأسرة مواصلة الطريق إلى منطقة الانطلاق، تحتاج إلى ثلاث ساعات تقريباً للوصول إلى مشارف المنطقة الوسطى، ما بعد وادي غزة، وفي حال لم تكن هناك وسيلة نقل، فإنها تحتاج لأكثر من ست ساعات، تقطع الأسرة في نصف الوقت الأول المسافة من مكان تواجدها إلى بدايات شارع صلاح الدين في حي الزيتون.
وبعد اجتياز منطقة وادي غزة، تقف بعض العربات التي تجرّها الحيوانات، لحمل بعض كبار السن وغير القادرين على الحركة والمرضى والأطفال، فيما يقوم شبان من النازحين بحمل المقعدين من الرجال والنساء على ظهورهم طوال مسافة الطريق الخطرة.
وذكر مواطنون أن جنود الاحتلال كانوا يطلبون من بعض النازحين بالتوجّه إلى الدبابة، وهناك يبدؤون بعملية فحصهم، وعلاوة على ذلك، يقول نازحون إن جنود الاحتلال أبقوا شباناً رهن الاحتجاز بجوار الدبابات على مدار يوم كامل، كـ “دروع بشرية”.
أحد الرجال، وهو قد سار يرفع والدته المسنّة من تحت ذراعيها، لمساعدتها على المشي قرب مخيم البريج، أول مكان يصل إليه النازحون، قال إنهم كانوا يسمعون طوال طريق النزوح التي تواجدت على طرفيها دبابات إسرائيلية، أصوات طلقات نارية، لافتاً إلى أن سيدة لحقت بهم بعد أن اجتازوا “تقاطع الشهداء”،
والمعروف باسم حاجز نتساريم قديماً، وكانت تصرخ، وأبلغتهم أن رصاصات أطلقت من الدبابة قتلة زوجها ونجلها.
وجرى تداول مقطع مصور لسيدة على مجموعات إخبارية للصحفيين، تقول فيه: “بعد ١٠ أيام من استشهاده، رحت جبت جثة ابني من شارع صلاح الدين، عرفتو من قشاطو (حزام البنطال)، ما همني اليهود يطخوني”. هذه السيدة قالت إنها وضعت بطانية كانت معها على جثة نجلها، وحملته، وسارت به، فيما كان جنود جيش الاحتلال ينظرون إليها، وقد بدأت وقتها بالصراخ والبكاء، وتؤكد أنها شاهدت في المكان عدداً من الجثث، بينها جثث متحلّلة.
كما تداولَ نشطاء على “فيسبوك” تدويته يسألون فيها عن أي معلومة تدلّ على مصير زوجين ارتبطا قريباً، وفقدت آثارهم خلال النزوح.
وجاء في المنشور: “عريسان متزوجان حديثاً كانا الجمعة ظهراً يغادران، مثل الآخرين، من القصف في الشمال ناحية الجنوب عن طريق البحر، وللآن لا يعلم أقاربهما أي معلومة عنهم”. ويضيف المنشور المتداول: “أرجوكم، لو أي معلومة بتكون مفيدة”، والزوجان هما معتز لبد وإيمان السيد، وقد تم فقدان الاتصال بهما بعد ساعة من مغادرتهما حي النصر بمدينة غزة، باتجاه مدينة دير البلح وسط قطاع غزة.