قال الناطق العسكري الإسرائيلي دانئيل هغاري إن القوات المحتلة قد استكملت محاصرة مدينة غزة، وتقطيع أوصال القطاع إلى قطاع شمالي وآخر جنوبي، وسط تسريبات وتقديرات بأن اقتحام المدينة بات وشيكاً، وربما خلال يومين.
بالتزامن، تُواصل قيادات إسرائيلية التهديد والوعيد، والتباهي بمكاسب عسكرية تجنيها الحملة البرية في يومها الثامن. في المقابل يشكّك بعض المراقبين الإسرائيليين بقدرة الجيش على تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، مثلما تعرب أوساط إسرائيلية واسعة عن إحباطها وغضبها على تصريحات جديدة لنتنياهو حول مسؤولية الفشل الذريع في السابع من أكتوبر، بينما إسرائيل في ذروة الحرب.
يقول المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل، اليوم الإثنين، إنه لم يعد لدى إسرائيل وقت غير محدود للحرب داخل القطاع، منبهاً إلى أن هامش مناورة الرئيس الأمريكي جو بايدن بدأ يضيق، وأن صبره من شأنه أن ينفد بعد أسابيع قليلة. كما يحذّر هارئيل من احتمال اشتعال الجبهة الشمالية، واستهداف المدنيين الإسرائيليين أيضاً، لا الجنود فحسب، رغم مؤشرات الأمين العام حسن نصر الله بعدم رغبته الدخول في حرب.
كما ينبّه أنه رغم التركيز الإسرائيلي في الحرب على غزة، فإن الجبهة الشمالية تشهد توتراً متصاعداً، ويقول إن “حزب الله” استَهدفَ، أمس، شاحنة، وقتل سائقها، قريباً من مستوطنة يفتاح، فردّت إسرائيل بقصف مدفعي قتل سيدة وثلاثاً من حفيداتها، ما دفع “حزب الله” لضرب مدينة كريات شمونة بأربعة صواريخ غراد، التي تحمل وزناً كبيراً من المتفجرات، وتسبّب بأضرار فادحة. كذلك ينبّه هارئيل إلى أن المرحلة التالية من المعركة داخل القطاع تقترب، بينما الصبر الأمريكي حيال الحملة البرية ينفد.
ويمضي في تشكيكه: “في اليوم الواحد والثلاثين للحرب، مِن المفضّل عدم تضليل أنفسنا: لا يوجد لإسرائيل وقت غير مقيّد، ولدى الولايات المتحدة، التي قدمّت دعماً عسكرياً دبلوماسياً سخيّا غير مسبوق لإسرائيل في هذه المعركة، اعتبارات أخرى بحاجة لأن تأخذها بالحسبان. هذه الرسائل تصل من واشنطن لتل أبيب. مصادر إسرائيلية ترى أن السؤال ليس هل يفقد الأمريكيون صبرهم، إنما متى؟ والجواب، حسب بعض التقديرات، هو أن ذلك سيكون في الفترة حتى عيد الميلاد في أقصى حد”.
وتأتي تحذيرات هارئيل وغيره على خلفية تصاعد الاحتجاجات في الولايات المتحدة ضد الحرب، وتراجع شعبية الرئيس بايدن، وضمور احتمالاته الانتخابية، كما عكسَ استطلاعُ رأي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أمس. وما يعكس التحولات في الموقف من هذه الحرب، والخشية داخل الولايات المتحدة، عنونة الصحيفة الأمريكية “واشنطن بوست” صدر صفحتها الأولى بمانشيت: “غزة تحولت لمقبرة جماعية للأطفال”.
ماكنة نثر السم
وبدا المحلل السياسي البارز ناحوم بارنياع أكثر تشكّكاً بقدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق أهداف المعلنة، فيقول، في مقال نشرته صحيفته “يديعوت أحرونوت”، اليوم، إنه “عندما يبدأ مصدر أمني رفيع بتعريف منجزات الحرب حسب عدد القتلى في الجانب الآخر، فأنا قلق، هكذا سوّقَ الجنرالات حرب فيتنام للرأي العام الأمريكي. لم يفهموا أن ما يحسم مصير الحرب هو عدد القتلى في صفوفهم هم، في الجانب الأمريكي، لا صفوف العدو في فيتنام”.
وجدّدَ بارنياع الهجوم على نتنياهو، وقال إن ماكنة بثّ السم، التي يديرها منذ سنوات، تعمل في عزّ الحرب، ونتنياهو يدرك أن مقولته الداعية لفحص العلاقة بين تهديدات ضباط في سلاح الجو، قبل شهور، بالتوقف عن الخدمة العسكرية، وبين الدافعية لدى يحيى سنوار بالإقدام على “طوفان الأقصى” هي فرية زائدة وضربة للقوات العسكرية التي تقاتل الآن، لكنه لا يستطيع ضبط نفسه”.
بالتزامن، جدّدَ زميله المعلق السياسي نداف أيال حملته على نتنياهو لذات السبب، بقوله: “أفكر بمن هم موجودون الآن داخل قطاع غزة- الجنود- وبتضحياتهم وعائلاتهم، فهم أبطال ويستحقون أفضل قيادة في العالم، لكنهم لا يحصلون عليها للأسف”.
ولجانب بارنيع وهارئيل، يؤكد المحلل السياسي البارز في القناة العبرية 13 رافيف دروكر، ليلة أمس، أن الحملة البرية ما زالت غامضة، وأنه متشكك حيالها، بقوله: “لا أريد هنا التقليل من قيمة منجزات الجيش، لكن بعد شهر على نشوبها فإننا لم نر بعد صوراً لأنفاق مدمّرة، ورايات بيضاء يرفعها مقاتلو “حماس”، مثلما لم نر انهياراً للمنظومات العسكرية لديها”.
مصادر إسرائيلية ترى أن السؤال ليس هل يفقد الأمريكيون صبرهم، إنما متى؟ والجواب أن ذلك سيكون في الفترة حتى عيد الميلاد في أقصى حدّ
الضغوط الخارجية
وتساءل دروكر؛ إذا كان الجيش قادراً على قتل قائد “حماس” يحيى سنوار فلماذا يطالب أهلَ غزة بأن يسبقونا إلى ذلك؟
ويوم أمس، جدّدَ مستشار الأمن الإسرائيلي الأسبق الجنرال في الاحتياط غيورا أيلاند تحذيراته من تورّط الحملة البرية داخل قطاع غزة، بقوله، في حديث لإذاعة عبرية، إنه ينظر بنظرة غير متفائلة للحرب. وعلّلَ أيلاند ذلك بالقول إن حركة “حماس” بعيدة من الانهيار، وتواصل العمل بمنهجية، ولا نرى صيرورة على الأرض تدفعها للاستسلام.
وهذا ما يلمّح له مايكل أورن، السفير الأسبق في واشنطن، في حديث للإذاعة العبرية، اليوم، بإشارته لمخاطر الضغوط الخارجية على إسرائيل من أجل وقف الحرب، معتبراً ذلك كارثة إستراتيجية.
وهذا ما يراه الجنرال في الاحتياط غرشون هكوهن، الذي يقول، في تصريحات إعلامية، إن احتلال غزة سيستغرق وقتاً كبيراً، لكنه يدعو لرفض فكرة الهدنة رغم الضغوط الأمريكية باعتباره أن هدنة الآن، ولو مؤقتة، ستلحق ضرراً بنا، لأنها ستمنح “حماس” فرصة لالتقاط أنفاسها، وترتيب أوراقها العملياتية على الأرض وتحتها. وتابع: “أتفق مع أيلاند، لكنني أكثر تفاؤلاً منه، ولا خيار لنا سوى الانتصار، وإلا لن نبقى هنا”. كما يتفق مايكل مع أيلاند وهكوهين بضرورة تكثيف الغارات على القطاع أكثر، متجاهلين أن إسرائيل صبّت جحيماً مهولاً على القطاع يذكّر بما فعله الحلفاء في مدينة دريزدن في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك بخلاف دروكر وبارنياع وغيرهما، ممن يدعون لتحاشي الحديث العالي، وللتواضع في تحديد الأهداف، والبحث عن حلول خلاقة.
في المقابل هناك جهات إسرائيلية تدعو للإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين قبل أي شيء آخر، ومنهم الوزير السابق النائب المعارض يواف سغالوفيتش (حزب “هناك مستقبل” برئاسة يائير لبيد)، الذي قال، اليوم، في حديث للقناة العبرية 12، إن الانتصار يعني استعادة المخطوفين أولاً، فهذا هو الأمر الأهم. وعن ذلك تابع: “ما خسرناه في السابع من أكتوبر لا يمكن استرجاعه، ولكن علينا العمل لاستعادة المخطوفين بعيداً عن الحسابات السياسية والتصريحات المروعة الصادرة عن وزراء”.
الحرب على الرواية متصاعدة
ويصل للبلاد اليوم رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية، وعلى ما يبدو يحمل معه عدة ملفات، من بينها الرغبة الأمريكية بالهدنة المؤقتة، والإفراج عن محتجزين مدنيين، خاصة الأجانب، علاوة على ملف “اليوم التالي” للحرب، وهذا تزامناً مع تصاعد الانتقادات في العالم للحرب المتوحشة وللدعم الأمريكي السافر لإسرائيل. وأمام احتدام المعركة في العالم على الرواية حول هذه الحرب المتوحشة، واتساع التضامن مع الشعب الفلسطيني في الرأي العام الغربي، تتصاعد الدعوات في إسرائيل لبثّ فيلم دعائي أعدّته إسرائيل عن “فظائع حماس” داخل مستوطنات غلاف غزة، واقتصرت مشاهدته حتى الآن على دبلوماسيين وصحفيين أجانب. ونقلت الإذاعة العبرية العامة عن مصادر مقربة من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تأييده لنشر “الفيلم”، لمساهمته في تبرير الحرب الإسرائيلية، لكن بعض عائلات الضحايا ممن تظهر جثامينهم في التوثيق التلفزيوني ترفض إعطاء الموافقة على ذلك.
القنبلة النووية الدعائية
وتزداد هذه الدعوات لاستخدام “الفيلم” عن “فظائع حماس” في العالم، خصوصاً بعدما تورّطَ وزير إسرائيلي، أمس، بتصريح بربري يخدم الرواية الفلسطينية، والحديث عن وزير التراث اليهودي عاميحاي الياهو، الذي قال لإذاعة عبرية إن استهداف قطاع غزة بقنبلة نووية أحد الخيارات، ما أثار أصداء واسعة في العالم. وفي إسرائيل أيضاً ما زال التصريح يثير ضجة واسعة، وتعتبره أوساط كثيرة سياسية وإعلامية أحمق، وتدعو لإقالته، وتُحمّل نتنياهو المسؤولية عن ذلك، كما يؤكد، على سبيل المثال، المعلق السياسي الحزبي في “هآرتس” يوسي فرطر. في مقاله اليوم بعنوان “وزير خطير” يتوقف فرطر عند خطورة تصريحات الياهو من الناحية الأخلاقية والإنسانية، علاوة على الأذى السياسي الفادح، بقوله إن خيار الياهو يتجاهل مليوني فلسطيني، ويتجاهل 241 إسرائيلياً محتجزاً، ويلحق ضرراً فادحاً بإسرائيل، وصدرت عنه تصريحات كهذه في الماضي، منها دعوته لسجن قضاة المحكمة العليا، واعتباره مفوض بنك إسرائيل المركزي “أحمقَ” واعتباره المجرم حارق عائلة دوابشة الفلسطينية عميرام بن أوليئيل بريئاً لم يفعل شيئا. ويتابع: “رغم كل ذلك، فإن نتنياهو لم يقرر بعد حيال هذه التصريحات، وما زال يفكّر أن يستدعي الوزير الوقح والغبي لجلسة توبيخ”.
حسابات الأخلاق مقابل اعتبارات المصالح
لكن الدوافع خلف الغضب الإسرائيلي بشكل عام على تصريح الياهو ترتبط بميزان المصالح: استعداء العالم وإظهار إسرائيل بلون أحمر أو أسود، في ظل مشاهد الدمار وصور الجرائم الصادرة من غزة، علاوة على الاعتراف الضمني بسرّ حرصت إسرائيل على إبقائه ملفوفاً بالضباب، وعلى قلة اللياقة والحساسية الإنسانية تجاه حياة المحتجزين الإسرائيليين داخل قطاع غزة.
وتعرب بعض الأوساط الإسرائيلية الرافضة للمساس بالمدنيين الفلسطينيين عن اشمئزازها من هذا التصريح، لكونه يؤيد بشكل واضح قتل ملايين الفلسطينيين. وهناك أوساط إسرائيلية واسعة أيضاً لا تكتفي بالدعوة لبثّ الفيلم المذكور، بل تطالب علانيةً بمواصلة تدمير قطاع غزة، ولم يتردّد معلق سياسي في الإذاعة العبرية العامة، اليوم، في تبرير الدمار والقتل بالإشارة إلى أن العالم الغربي ألقى 100 ألف طن ديناميت على مدينة دريزدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.