يحيي الشعبان الفلسطيني والأردني كل عام ذكرى معركة الكرامة الخالدة، التي التحمت فيها دماء الشعبين، لتسطر أول انتصار عربي على إسرائيل، بعد تسعة أشهر على هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران 1967.
واندلع القتال في 21 آذار عام 1968 عندما حاولت قوات الجيش الإسرائيلي احتلال الضفة الشرقية لنهر الأردن من عدة محاور، إلا أن الجيش الأردني بالاشتراك مع الفدائيين الفلسطينيين وسكان قرية الكرامة ومنطقتها تصدَّوا لهم في معركة استمرت أكثر من 16 ساعة أُجبرت إسرائيل على الانسحاب الكامل من أرض المعركة.
وقد بدأ التوتر بين الجانبين، قبل احتلال إسرائيل للضفة الغربية من نهر الأردن التي كانت خاضعة للمملكة الأردنية الهاشمية بعد حرب 1948 التي حافظ فيها الجيش العربي الأردني على كامل الضفة الغربية بما فيها القدس الشريف، واحتضن الأردن المقاومة.
وأدت الهجمات المنظمة للفدائيين إلى صدامات عسكرية متكررة بين الجيشين الأردني والإسرائيلي على طول نهر الأردن، حيث وقع في حينها ما يزيد على 44 اشتباكاً بالمدفعية والقصف الجوي والدبابات والأسلحة المختلفة منذ 5 حزيران 1967 حتى معركة الكرامة.
وفي مطلع عام 1968، هددت إسرائيل بعمل مضاد إذا ما استمرت نشاطات الفدائيين الفلسطينيين عبر النهر، وقامت بتكثيف نشاط الدوريات الإسرائيلية في الفترة ما بين 15-18 آذار 1968 بين جسر الملك حسين وجسر دامية، كذلك الطلعات الجوية لطائراتها فوق وادي الأردن.
وتمهيدا للهجوم الواسع قامت إسرائيل بهجمات عديدة ومركزة استخدمت بشكل رئيس القصف الجوي والمدفعي على طول الجبهة الأردنية طوال أسابيع عديدة، سبقت بداية المعركة عند الساعة 5:25 من فجر يوم الأحد في 21 آذار 1968، كما مهدت لذلك بإجراءات واسعة النطاق في المجالات النفسية والسياسية والعسكرية عمدت بوساطتها إلى تهيئة المنطقة لتطورات جديدة يتوقعونها كنتائج لعملياته العسكرية شرقي نهر الأردن.
وفي 21 آذار 1968 شنت القوات الإسرائيلية هجوما واسعا على الضفة الشرقية لنهر الأردن، امتد من جسر الأمير محمد شمالا حتى جنوب البحر الميت، وكان هدف الهجوم حسب ما أعلنت إسرائيل في حينها "القضاء على مواقع الفدائيين الفلسطينيين في مخيم الكرامة".
وكانت إسرائيل حشدت أربعة ألوية لتنفيذ المعركة:لواءين مدرعين ولواء المظليين 35، ولواء المشاة 80، تدعمها وحدات من المدفعية الميدانية (خمس كتائب مدفعية من عيار 105 مم و155مم) ووحدات هندسية عسكرية وتغطية جوية بأربعة أسراب نقالة، إضافة إلى عدد من المروحيات لنقل كتيبتي مشاة مع معداتهما، والتي بلغ عددها 15 ألف جندي.
وفي الجانب العربي كانت وحدات رصد "فتح" تراقب تحركات القوات المعادية، وتدارست قياداتها التدابير الواجب اتخاذها وعلى الأخص المجابهة أو الانسحاب من المواقع المستهدفة من قبل العدو، لتأتي ضربته في الفراغ – وفقا لمبادئ قتال الحرب الشعبية، فيما اتخذت القيادة الأردنية استعداداتها للتصدي للعدوان الوشيك، فوضعت القوات في حالة استنفار وتعبئة انتظارا للتطورات المتوقعة.
رغم أن إسرائيل أعلنت أنها قامت بالهجوم لتدمير قوة المقاومة الفلسطينية، إلا أن الهدف لم يكن كذلك كما تبين من الوثائق التي حصلت عليها المخابرات الأردنية، فقبل أيام من معركة الكرامة حشدت إسرائيل قواتها لاحتلال مرتفعات البلقاء والاقتراب من العاصمة عمّان وضم أجزاء جديدة من الأردن وتحويلها إلى جولان أخرى لتخلص من الهجمات المستمرة التي كان يقوم بها الفلسطينيون.
وكانت تسعى كذلك إلى إرغام الأردن على قبول التسوية والسلام الذي تفرضه إسرائيل وبالشروط التي تراها وكما تفرضها من مركز القوة، ومحاولة وضع ولو موطئ قدم على أرض شرقي نهر الأردن باحتلال مرتفعات السلط وتحويلها إلى حزام أمنى لإسرائيل.
بعد 16 ساعة من القتال، انتهت المعركة، وفشلت إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها على جميع الأصعدة، وخرجت من هذه المعركة خاسرةً ماديا ومعنويا، وبدأت بالانسحاب في حوالي الساعة 15:00، وطلبت إسرائيل ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وقف إطلاق النار في الساعة الحادية عشرة والنصف من يوم المعركة، إلا أن الأردن أصر وعلى لسان الملك حسين على "عدم وقف إطلاق النار طالما أن هناك جنديا إسرائيليا واحدا شرقي النهر".
كانت معركة الكرامة نقطة تحول كبيرة بالنسبة لحركة فتح خاصة والمقاومة الفلسطينية عامة، وتجلى ذلك في سبل طلبات التطوع في المقاومة ولا سيما من قبل المثقفين وحملة الشهادات الجامعية، والتظاهرات الكبرى التي قوبل بها الشهداء في المدن العربية التي دفنوا فيها، والاهتمام المتزايد من الصحافة الأجنبية بالمقاومة الفلسطينية، مما شجع بعض الشبان الأجانب على التطوع في صفوف المقاومة الفلسطينية.
كما أعطت معركة الكرامة معنى جديدا للمقاومة تجلى في المظاهرات المؤيدة للعرب والهتافات المعادية التي أطلقتها الجماهير في وجه وزير خارجية إسرائيل آبا ايبان أثناء جولته يوم 7/5/1968 في النرويج والسويد، فقد سمعت آلاف الأصوات تهتف "عاشت فتح".
على الصعيد العربي كانت معركة الكرامة نوعا من استرداد جزء من الكرامة التي فقدتها في حزيران 1968 القوات المسلحة العربية التي لم تتح لها فرصة القتال، ففي معركة الكرامة أخفقت إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية والاستراتيجية لرفع معنويات الإسرائيليين، بل ساهمت في زيادة خوفهم وانعزالهم.
وحول خسائر المعركة، فقد استشهد 17 شهيدا من الجانب الفلسطيني، و20 من الجانب الأردني و65 جريحا بينهم عدد من الضباط و10 دبابات و10 آليات مختلفة ومدفعان، فيما قتل 70 إسرائيليا وأكثر من 100 جريح، ودمرت 45 دبابة، و25 عربة مجنزرة و27 آلية مختلفة، و5 طائرات.
بعد انتهاء المعركة صدرت العديد من ردود فعل كان أبرزها، قول الرئيس الراحل ياسر عرفات إن 'معركة الكرامة شكلت نقطة انقلاب بين اليأس والأمل، ونقطة تحول في التاريخ النضالي العربي، وتأشيرة عبور القضية الفلسطينية لعمقيها العربي والدولي".
صحيفة "نيوزويك" الأميركية نشرت بعد معركة الكرامة: 'لقد قاوم الجيش الأردني المعتدين بضراوة وتصميم، وإن نتائج المعركة جعلت الملك حسين بطل العالم العربي".
وقال رئيس الأركان الإسرائيلي في حينه، حاييم بارليف، في حديث له: إن إسرائيل فقدت في هجومها الأخير على الأردن آليات عسكرية تعادل ثلاثة أضعاف ما فقدته في حرب حزيران، وقال أيضا في حديث آخر: إن عملية الكرامة كانت فريدة من نوعها ولم يتعود الشعب في (إسرائيل) مثل هذا النوع من العمليات، وبمعنى آخر كانت جميع العمليات التي قمنا بها تسفر عن نصر حاسم لقواتنا.
وعلق أحد كبار القادة العسكريين العالميين، رئيس أركان القوات المسلحة في الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة المارشال جريشكو: لقد شكلت معركة الكرامة نقطة تحول في تاريخ العسكرية العربية.
أما رئيس أركان الجيش الأردني حينها، الفريق مشهور الجازي فقال: أقول بكل فخر، إنني استطعت تجاوز الخلاف الذي كان ناشئا آنذاك بين الفدائيين والسلطة الأردنية، فقاتل الطرفان جنبا إلى جنب، وكقوة موحدة تحت شعار: كل البنادق ضد إسرائيل فكانت النتيجة مشرفة.