رام الله الإخباري
على مدار شهر كامل تحوّلت أبصار الكثيرين إلى مدينة جنين الفلسطينية التي لجأ إليها 2 من الأسري الفلسطينيين الذي فروا من أشد السجون الإسرائيلية حراسة قبل أن يُعاد اعتقالهما من جديد.
هذه المدينة في طليعة المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل منذ احتلالها عام 1948 وحتى الآن، وأيضاً لها تاريخ كبير مع النضال حتى منذ غزو جيش نابليون بونابرت للمنطقة.
روايات وقصص لرجال المقاومة الفلسطينية منذ عقود يرويها أصحابها لموقع Middle East Eye البريطاني.
قال بسام السعدي (61 عاماً): "نشأتُ وأنا أستمع إلى القصص البطولية عن عمي الأكبر، فرحان السعدي وعز الدين القسام، اللذين غرسا بذور المقاومة وألهما الجيل التالي في جنين، بمن فيهم أنا نفسي".
وعلى غرار ذكريات السعدي، فإن قصص وتواريخ العائلات التي يحكيها المواطنون كبار السن تعود لترسّخ إرثاً طويلاً من الكفاح ضد القمع والاحتلال لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا.
تقع مدينة جنين عند سفح تلال نابلس الوعرة؛ جبل النار كما سُمّي بعد أن أشعل المواطنون النار في بساتين الزيتون والغابات لمنع تقدم الجنود الفرنسيين في عام 1799.
عندما انتصر الفرنسيون في المعركة في النهاية، أمر نابليون جنوده بحرق جنين ونهبها انتقاماً لمساعدتهم العثمانيين.
الدعم الثوري
بعد مرور قرنٍ واحد على هذه الواقعة، وقعت جنين في قبضة الحلفاء البريطانيين في سبتمبر/أيلول 1918 خلال الحرب العالمية الأولى، وخضعت لسلطات الانتداب البريطاني مع باقي المدن الفلسطينية.
في تلك الفترة نظّم عز الدين القسام، الداعية المسلم والمصلح الاجتماعي، أول مقاومة فلسطينية مُسلحة عام 1935 لمواجهة البريطانيين في منطقة جنين.
وبحلول عام 1936، صارت جنين مركزاً للمقاومة ضد السلطات البريطانية، تحت قيادة صديق القسام- وعم بسام السعدي الأكبر- فرحان السعدي.
كان فرحان السعدي من قرية مجاورة لجنين، واشترك في المظاهرات المناهضة لبريطانيا وفي ثورة البراق عام 1929، التي كانت مواجهة بين المسلمين واليهود على الدخول إلى موقع مقدس في القدس، وانتشرت في سائر البلاد.
قال بسام السعدي إن الرجلين التقيا قبل سنوات من اعتقال السلطات البريطانية عمه الأكبر منذ 1929 وحتى 1932.
وأضاف السعدي، متحدثاً إلى موقع Middle East Eye: "أخبرتني أمي أنها رأت القسام قادماً لزيارة عمي الأكبر في منزله بقرية المزار".
"لكنه بعد أن أُفرج عنه من السجن، انضم إلى القسام الذي رأى حاضنة شعبية لثورته في جنين بين الفلاحين الذين دعموا الثورة".
وقبل شهور على اندلاع الثورة العربية ضد الانتداب البريطاني، التي نادت باستقلال فلسطين وإنهاء هجرة اليهود المفتوحة، قُتل القسام في اشتباك مُسلح مع شرطة الاستعمار البريطاني.
انتهت الثورة عام 1939، بعدما أصدر مسؤولو الانتداب البريطاني الورقة البيضاء التي تعهّدت بإبطاء هجرة اليهود إلى فلسطين، وبعد أن قُتل أغلب قادة الثورة الفلسطينيين أو ألقي القبض عليهم.
الترميم بالطين والحجر
في عام 1948 بعد أن أعلنت إسرائيل استقلالها وقُتل آلاف الفلسطينيين أو طُردوا من منازلهم على يد الجماعات اليهودية شبه العسكرية، احتلت القوات الإسرائيلية جنين فترة وجيزة.
كان يمكن أن تلقى المدينة مصيراً مشابهاً لجارتها حيفا، التي احتلتها إسرائيل وشُرّد منها مواطنوها العرب. وقد أُجبر معظم مواطني جنين على تركها تحت القصف العنيف.
لكن بدلاً من احتلالها، دافع عنها الجيش العراقي والمتطوعون الفلسطينيون، ومنهم محمد قصراوي من قرية برقين المجاورة لجنين.
تتذكر خضرة أبو السريا (84 عاماً) عندما دمرت الميليشيات الصهيونية موطنها قرية زرعين وشردت عائلتها، التي أُجبر أفرادها على العيش لاجئين في مخيم جنين.
قالت خضرة، متحدثة إلى موقع Middle East Eye في مخيم جنين الذي لا تزال تعيش فيه والذي شهد تدمير منزل عائلتها مرتين: "بنينا منزلاً من الحجارة والطين في المخيم".
وتابعت خضرة: "اشترك أخي حسن الذي كان أحد المقاومين ضد البريطانيين، في الثورة، وقُتل رمياً بالرصاص عام 1969 على يد الميليشيات الإسرائيلية التي اختطفت الجثمان لاحقاً".
لم تتم إعادة الجثمان من ذلك الحين، ولا تزال العائلة تجهل أُين دُفن.
"كان أملهم العودة"
وقعت جنين تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967، ما شجع عديداً من الشباب، مثل جمال زبيدي، على الالتحاق بالمقاومة ضد الاحتلال.
قال زبيدي (65 عاماً) إنه فرَّ من مخيم جنين مع عائلته والكثير من المواطنين الآخرين، متوجهين إلى الجبال خلال الحرب، للهرب من القصف المتواصل.
وأضاف زبيدي: "كانوا يأملون العودة إلى قراهم التي نزحوا منها، لكنهم عادوا إلى المخيم مجدداً".
ويتذكر كذلك جمعة أبو جبل (54 عاماً) الذي وُلد في مخيم جنين بعد أن نزحت عائلته من قرية لد العوادين الواقعة بالقرب من حيفا، حيث كانت تعيش عام 1948.
قال أبو جبل، متحدثاً إلى موقع Middle East Eye: "فشل الجيش الإسرائيلي بسياراته الجيب المدرعة في اقتحام المخيم 60 يوماً بفضل المقاومة الشرسة".
ألقي الجيش الإسرائيلي القبض على أبو جبل أكثر من 10 مرات ما بين عام 1987 و2020، ووُجهت إليه اتهامات بالانتساب إلى حماس. وقد قضى في السجن أكثر من 5 أعوام إجمالاً، ويعمل حالياً في قطاع البناء.
غزو جنين
أثناء الانتفاضة الثانية، هاجم الجيش الإسرائيلي مخيم جنين ضمن ما سُمي بعملية الدرع الواقي.
وفي أبريل/نيسان 2002، حاصر الجيش الإسرائيلي المخيم وقطع عنه الماء والكهرباء ومنع الأطقم الطبية من الدخول إليه، قبل أن يقصفه بالطائرات الحربية F-16 والقذائف المدفعية.
وخلال الهجوم، كان جمعة أبو جبل يُخزن الطعام ويوزعه على مواطني المخيم عندما أصابه جندي إسرائيلي في قدمه برصاصة متفجرة دمرت ركبته.
ظل ينزف 4 أيام مختبئاً في منزل مهجور ليتفادى الاعتقال. لكن عندما اقتحم الجيش المخيم، أُلقي القبض عليه واعتُقل 6 أشهر.
قال أبوجبل: "أخذوني إلى السجن حيث ظللت أنزف إلى أن أُصيبت قدمي بالعدوى. وخضعتُ للاستجواب والتعذيب بضرب قدمي المصابة. ثم أُدخلتُ المستشفى حيث بُترت ساقي دون موافقتي".
وخلال الغزو نفسه، حُبس جمال زبيدي (65 عاماً) في منزله مع 14 فرداً من عائلته. وكان منزلهم قد دُمّر بالفعل أثناء الانتفاضة الأولى.
قال زبيدي: "قصفت الطائرات الإسرائيلية منزلنا بثلاث قذائف وحولته إلى ركام للمرة الثانية، لكننا نجونا بأعجوبة".
وفي حين نجت عائلة زبيدي من القصف، كانت العملية مدمرة من نواحٍ أخرى؛ إذ ماتت والدته سميرة، بطلقٍ ناري من الجيش الإسرائيلي قبل وقتٍ قصير من غزو مارس/آذار. وقتل الجيش، على حد قوله، أخاه طه في الشهر التالي.
وفي يومنا هذا لا يزال مخيم جنين إحدى البؤر الساخنة للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومكاناً نادراً تجد فيه الوحدة بين جميع الفصائل الفلسطينية بما فيها فتح وحماس.
قال أبو جبل: "الكفاح يوحّدنا، والانقسام ليس بين فصائل المقاومة بقدر ما هو بين المقاومة وأعدائها. لكننا سننتصر".
عربي بوست