سلطت عدة تقارير الضوء على إحداث العدوان على الفلسطينيين ثغرة في استراتيجية الولايات المتحدة ضد غريمها، الصين، ودفع الأخيرة لقلب الطاولة على الاحتلال الإسرائيلي، بعد سنوات من "التودد" و"الدبلوماسية الصفرية".
وأجبرت التطورات في الأراضي المحتلة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إجراء اتصالاته بقادة المنطقة، الذين تجاهلهم منذ توليه المنصب في 20 كانون الثاني/ يناير الماضي، وتعيين سفير لدى السلطة الفلسطينية، أخيرا، بعد أن تركز جل اهتمامه على الجبهة الداخلية وحشد الحلفاء ضد الصين.
لكن العملاق الآسيوي، بحسب تقارير، لم يفوت فرصة تعميق أزمة الدبلوماسية الأمريكية، سواء من حيث تذكير العالم بكيل واشنطن بمكيالين بشأن حقوق الإنسان، عندما يتعلق الأمر بممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين، أو من حيث عجز الولايات المتحدة للتوسط وتقديم حلول سياسية للقضية.
لكن ذلك الموقف الصيني تسبب أيضا بخرق لمسار "التقارب" بين بكين والاحتلال، الذي تجلى على الصعيد الاقتصادي بشكل خاص خلال السنوات الماضية.
وسلطت مجلة "فورين بوليسي" الضوء على تغريدة للخارجية الصينية، تستنكر "زعم الولايات المتحدة أنها تهتم بحقوق الإنسان للمسلمين، فيما تغض الطرف عن معاناة المسلمين الفلسطينيين"، لا سيما وأن واشنطن كانت قد تزعمت للتو حراكا أمميا ضد بكين؛ بشأن معاملتها لأقلية الأويغور في تركستان الشرقية.
ولفتت المجلة إلى أن تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية أضاف ساحة جديدة للصراع بين القوتين، فضلا عن فضاء التواصل الاجتماعي، الذي استنزفت فيه صورة الاحتلال وداعميه مع انتشار صور فظاعات العدوان.
انقلاب صيني على الاحتلال
وأوضحت المجلة في تقريرها، الذي "، بالقول: "للوهلة الأولى، قد لا يبدو الصراع الإسرائيلي الفلسطيني نقطة احتكاك واضحة بين بكين وواشنطن.. فقد شهدت العلاقات الصينية الإسرائيلية ذوبانا تدريجيا في الثمانينيات، مما مهد الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية رسمية في عام 1992".
وأضافت: "تلك العلاقات منذ ذلك الحين نمت بشكل أعمق. ودأبت بكين على التودد إلى إسرائيل، معتبرة إياها وجهة رئيسية لاستثمارات البنية التحتية للحزام والطريق، مثل ميناء الحاويات في حيفا وخط سكة حديد مقترح يربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. والأهم من ذلك، أن بكين استهدفت إسرائيل كمصدر للتقنيات المتطورة - بما في ذلك الروبوتات والتكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي - حيث تهدف الصين إلى أن تصبح رائدة عالمية".
وتابعت: "بالتزامن مع ذلك التطور، تبنت بكين نهجا محافظا وساعيا لتهدئة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لقد مرت الصين بحركات إصدار - وإعادة إصدار بشكل متكرر - خطة سلام من أربع نقاط، تتبع إلى حد كبير الإجماع الدولي.. تدعو إلى حل الدولتين على أساس حدود عام 1967، بحيث تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وإنهاء العنف والمستوطنات الإسرائيلية".
واعتبرت المجلة أن هذا النهج لا يبدو أنه مصمم للنجاح ولكن لـ"تجنب الإساءة"، وهو ما يتوافق تماما مع نهج بكين تجاه الانقسامات الإقليمية الأخرى؛ "فهو يسعى إلى تحقيق التوازن في العلاقات مع كل جانب من أي صراع معين، وتجنب الخطوات الدبلوماسية الجريئة أو الحزبية بشكل مفرط".
ومع ذلك، فإن نهج الصين الحذر يتراجع أمام ركيزة أخرى لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط؛ "العمل على تقويض نفوذ الولايات المتحدة ومكانتها في المنطقة كما تفعل في أي مكان آخر".
هذا التراجع، الذي عادة ما يكون هادئا تفاقم وسط التصعيد الأخير في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ففي تناقض صارخ مع تغطيتها "اللطيفة" لحرب عام 2014، نشرت وسائل الإعلام الصينية التي تديرها الدولة، العديد من المقالات التي تتهم واشنطن بتجاهل الحقوق الفلسطينية وتحملها مسؤولية معاناة المدنيين.
وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة "غلوبال تايمز" افتتاحية أكدت فيها أن الولايات المتحدة "لم تؤجج نيران الصراع فحسب، بل أظهرت للعالم أيضا مدى أنانيتها ونفاقها فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان وتحمل مسؤولياتها كقوة عظمى".
وأشارت محطة تلفزيون CGTN الصينية الحكومية، إلى أن السياسة الأمريكية خاضعة لسيطرة "لوبي يهودي"، مما أثار رد فعل غاضب من سفارة الاحتلال في بكين.
وضخت حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الرسمية والحكومية في الصين الكثير من التدوينات في السياق ذاته.
وتجسد ذلك النهج في تغريدة لـ"تشاو ليجيان"، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، الذي نشر صورة تظهر نسرا يمثل الولايات المتحدة وهو يسقط صاروخا على غزة، مع تعليق جاء فيه: "انظروا ماذا جلب المدافع عن حقوق الإنسان لشعب غزة".
ووفقا لمبادرة "هاميلتون 2.0 داشبورد" التابعة لمنظمة "التحالف من أجل تأمين الديمقراطية"، فقد كانت كلمة "فلسطين" رابع أكثر الكلمات الرئيسية شيوعا على وسائل التواصل الاجتماعي الحكومية الصينية الأسبوع الماضي.
واستنكرت "فورين بوليسي" ما تفعله الصين، على اعتبار أنها لا تنوي في مقابل سعيها لهدم دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لتحمل أعباء صراعات المنطقة.
ورغم أن الصين، حتى الآن، تتجنب تركيز هجومها المباشر على الاحتلال الإسرائيلي، مقارنة بانتقادها لدور الولايات المتحدة، فإن التقرير يوصي الأخيرة بأن تكثف عملها على "توعية" شركائها في المنطقة من أي تعاون مع بكين، قد يمنحها فرصة لتأثير كبير في مرحلة ما لاحقة.
ولا تدعو "فورين بوليسي" الإدارة الأمريكية إلى تكثيف العمل على التوصل لحل يمنح الفلسطينيين قدرا من حقوقهم بما يعيد لها سطوتها على القضية، بقدر ما تدعوها إلى العمل على منع الصين من عقد شراكات بأي شكل من الأشكال مع أطراف المنطقة، وتجاهل أي جهود أو تصريحات تصدر من بكين بشأن ملفاتها الرئيسية، لتجنب تحويلها إلى ساحة صراع جديدة مع بكين، بما يؤثر على الاستراتيجية الأساسية لواشنطن هناك.
لا للوساطة بل لصياغة موقف جديد
وبالمثل، تحدث موقع "جابان تايمز" عن بروز الصوت الصيني إبان عدوان الاحتلال الأخير، خاصة أنه قد تزامن مع رئاسة بكين الدورية لمجلس الأمن.
وأكد الموقع في تقريره، أن الخطاب الصيني كان أكثر تركيزا على تسجيل نقاط في معركة بكين الجيوسياسية مع واشنطن، وهو ما برز في حث وزير الخارجية وانغ يي الولايات المتحدة على "تحمل مسؤولياتها"، في إشارة إلى علاقتها الخاصة مع الاحتلال، واستخدام الأخير لأسلحة أمريكية في قصف المدنيين بغزة.
ووفق التقرير، فإن الجولة الأخيرة "تظهر حدود القوة الناعمة الصينية. إن جهود الرئيس شي جين بينغ لقيادة ما يطلق عليه اسم المجتمع المشترك للبشرية، ليس لها وزن كبير في منطقة ليس للصين فيها وجود عسكري وتواجه شكوكا من أكبر اللاعبين".
وعلى غرار "فورين بويلسي"، استعرضت "جابان تايمز" تاريخ تطور العلاقات بين الصين وكل من الفلسطينيين والاحتلال، وصولا إلى الاعتراف بـ"إسرائيل" والتحول إلى ثاني أكبر شريك تجاري لها، مستفيدة، على عكس الولايات المتحدة، من استراتيجية تجنب "الاشتباكات الدموية والمكلفة".
ومع ذلك، "فإن دعم الصين التاريخي للقضية الفلسطينية واعتماد إسرائيل على الدعم الأمريكي"، يعقد فرص بكين لأداء دور وساطة جاد، بحسب التقرير، الذي ذكّر بفشل شي جينبينغ عام 2013 في التوسط لعقد لقاء بين رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في بكين.
ولا يبدو أن بكين، عبر ترديد "نقاطها الأربع" التي يرفضها الاحتلال، تسعى لدور وساطة حقيقية، بقدر ما يظهر ذلك توجهها لانحراف أكبر لصالح الفلسطينيين، بدفع من تحيّز أمريكا، في الوقت ذاته، لـ"إسرائيل".
وفي سعي أولي لاستثمار النهج الجديد، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان في إفادة صحفية دورية الأربعاء؛ إن "العالم العربي والدول الإسلامية يقدرون جميعا التزام الصين بالقواعد الدولية والإنصاف والعدالة".
وأكد التقرير أن اللعب على وتر "النفاق الأمريكي" يمنح الصين مكاسب كبيرة، من أهمها إخراجها من زاوية "حقوق الإنسان" التي أرادت واشنطن حشرها فيها، مع تهييج للدول المسلمة بشكل خاص ضدها، وتوجيه عدة ضربات تؤثر على صورتها، ليس أقلها حشد مقاطعة واسعة لاستضافتها للألعاب الأولومبية الشتوية العام المقبل.
ورغم كل ذلك، فإن بوادر دور صيني أوسع وأعمق في قضايا الشرق الأوسط لا تزال في بداياتها المبكرة جدا، ولا يمكن التعويل عليه في تحقيق اختراق يستحق الذكر، وإن كان تغير موقفها تجاه الاحتلال الإسرائيلي قد ينعكس على الأقل بحرمانه من تطوير التعاون الأمني مع دولة عملاقة تهيمن على جزء مهم من العالم، وعلى شبكة تجارية متنامية.