رام الله الإخباري
تزدحم القصص في المدينة المحتلة فوق الأرض وأسفلها، ومن القصص التي تأبى مغادرة ذاكرة المسنين المقدسيين رغم دفن أبطالها منذ عقود، هي شجاعة واستبسال الجنود الأردنيين في دفاعهم عن الأرض في حربي عام 1948 و1967 رغم تلقيهم الأوامر بالانسحاب.
قصص الاستبسال التي تلاها استشهاد 364 جنديا أردنيا في حرب عام 1948، و587 في حرب عام 1967 تركت أثرا خاصا في نفوس من شارك في البحث عن جثث الجنود وبادر في مواراتهم الثرى.
المسن المقدسي محمد نسيبة (82 عاما) كان له ولشقيقه أنور قصة مع الجنود لم تخبُ تفاصيلها رغم مرور 52 عاما على احتلال شطر القدس الشرقي.
اندلاع الحرب
في منزله بحي الشيخ جراح في القدس، سرد تفاصيل يوم الخامس من يونيو/حزيران 1967، حين كان متجها لعمله في الصباح وبدأت الأخبار تتوارد باندلاع الحرب.
عاد إلى منزله وتشاور مع وجهاء المدينة ثم أقبل عليه الضابط الأردني المسؤول عن الكتيبة المجاورة لمنزله، وقال له "يجب أن تغادروا المنزل إلى مكان أكثر أمانا"،
وكان منزل العائلة يقع في "المنطقة الحرام" أي في المنطقة الحدودية الفاصلة بين حدود عامي 48 و67، وهو أول المنازل المقابلة لجيش الاحتلال
يصمت قليلا وكأنه يستجمع قواه لمتابعة حديثه، فقطعنا صمته بسؤالنا: ما النتائج التي كنتم ترجونها من الحرب؟ فأجاب: كان لدينا أمل كبير في استرجاع يافا وحيفا وكل المناطق المحتلة، لكننا وجدنا أنفسنا خلال أيام تحت الحكم الإسرائيلي.
امتثل نسيبة لنصيحة الضابط الأردني الذي أخبره أيضا أنهم قد يحتاجون منزله، فسلّمه المسن المقدسي المفتاح فورا وغادر مع والدته وشقيقته وأسرة شقيقه المنزل باتجاه مدرسة دار الطفل العربي
استبسال فشهادة
وبعد خمسة أيام رُفع حظر التجول عن المدينة المحتلة، فخرج محمد وشقيقه باتجاه المنزل لتفقده، فوجده محترقا بشكل شبه كامل بسبب القذائف الإسرائيلية التي أطلقت عليه، وعاشت العائلة جميعها في منزل شقيقه أنور.
يقول نسيبة "انقطعت عن عملي مهندسا ومكثنا لفترة طويلة في منازلنا، وبعد أربعة أيام من عودتنا كنت أمشي في حديقة المنزل، ونظرت للأسفل في نقطة استحكام للجيش الأردني فوجدتُ جثة جندي أردني استشهد قبل أيام ووجهه محترق".
طلب الرجل مساعدة شبان آخرين لإخراج الجثة من المكان، وبادر وشقيقه أنور لدفنه في المكان ذاته إكراما له، ووضعوا على القبر شاهدا يحمل اسم الجندي -وهو محمود الزعبي من إربد- كما وضعوا خوذته العسكرية على القبر، وما زالت شامخة فوق قبره حتى يومنا هذا.
أضرحة الشهداء
تأثر خلال حديثه مع قناة الجزيرة عدة مرات، خاصة عندما قال إنهم شاهدوا جثث جنود أردنيين ملقاة على الأرض هنا وهناك في طريق عودتهم للمنزل بعد انتهاء الحرب، وتطرق لزيارة وفد أردني قبل سنوات القبر وكان من بينهم شقيق الشهيد.
غادرنا منزل عائلة نسيبة باتجاه أحراش مستشفى المُطّلع في جبل الزيتون بالقدس، والتقطنا صورا لقبور ثلاثة جنود أردنيين هناك، وفي قرية النبي صموئيل شمال غرب القدس سُيّجت أضرحة الشهداء ووضعت لافتة كُتب عليها "شهداء القوات المسلحة الأردنية، الجيش العربي عام 1967".
وتتوزع قبور شهداء الجيش الأردني في مناطق أخرى بالقدس، كبلدة صورباهر وعناتا ووادي الجوز وقرية بدّو، بالإضافة لجنود يرقدون في مقبرة باب الرحمة وفي أحراش عمواس على مشارف المدينة.
بوصلة أهالي المفقودين
ولقبور الجنود الأردنيين في أحراش عمواس قصة مع الموثق والباحث المقدسي طارق البكري، الذي كان يسير فيها فوجد شاهد قبر لجندي استشهد في حرب عام 1948، فتابع البحث حتى وجد ثمانية شواهد غمر التراب بعضها، واضطر للحفر حتى يتمكن من قراءة معلومات الشهيد كاملة.
قاده ذلك للنشر عن تجربته في المنصات الاجتماعية لتتوالى عليه الاتصالات من الأردن لأهالي جنود مفقودين، وقال "هذه الشواهد أشعلت بي شغف البحث عن قصص هؤلاء الجنود، فتوجهت للأردن وزرت أهالي الشهداء وجمعت صورهم، وعدت للأحراش مرة أخرى بعد تكبير صور الجنود والتقطتُ لها صورا بجانب الشواهد".
منذ خاض البكري هذه التجربة قبل أربعة أعوام وحتى يومنا هذا يتلقى عددا من الاتصالات شهريا من أهالي جنود أردنيين فقدوا في نكبة فلسطين ونكستها، ووجدوا في اللجوء إليه بصيص أمل قد يوصلهم لأي معلومة عن أبنائهم.
شغف البحث
وعن ذلك، قال البكري في حديثه لقناة الجزيرة "أحدهم اتصل وقال لي إن المعلومة الوحيدة التي يعرفها عن والده أنه استشهد على سور القدس التاريخي.. هذه القصص من الصعب جدا العثور على تفاصيلها ومكان الجندي بعد استشهاده، لكنني لا أقطع أمل الأهالي أبدا، وشغفي لم يخفت في البحث عن الجنود الأردنيين الذين كان لهم بطولات أتشرف بسبر أغوارها وسردها".
كرّمت عشائرُ أردنية عدة الشابَ المقدسي بعد زيارته أضرحة أبنائهم الجنود في القدس والضفة الغربية وبحثه عن قصصهم وتوثيقها، وكرمه الملك الأردني عبد الله الثاني أيضا.
وختم البكري حديثه للجزيرة نت عن أهمية إحياء قصص كثير من الجنود الأردنيين الذين رفضوا الامتثال لأوامر الانسحاب، وقاتلوا بشكل فردي حتى آخر رصاصة، "جنود كثيرون بقوا وحدهم في مواقعهم وأعاقوا تقدم قوات الاحتلال الإسرائيلية لساعات وأيام، حتى ارتقوا شهداء وسطروا قصص بطولات لن تمّحي من ذاكرة الشعبين".
الجزيرة نت