رام الله الإخباري
بعد 7 أشهر على أكبر احتجاجات في تاريخ إيران (ديسمبر/ كانون أول 2017)، عاد الإيرانيون إلى الشوارع، ليحتجوا على "الأداء السئ" للاقتصاد عامة، وتراجع قيمة العملة المحلية (الريال) على وجه الخصوص.
خلال الشهرين الماضيين، خسر الريال أكثر من 50 بالمئة من قيمته، وأصبحت إيران تواجه واحدة من أعلى نسب التضخم في العالم.
قبل بضعة أسابيع، ربط البنك المركزي الإيراني الريال بالدولار الأمريكي.
لكن في السوق السوداء ما يزال الدولار والعملات الأجنبية الأخرى يتم تبادلها أعلى بضعفين من السعر الرسمي.
يمكن اعتبار موجة الاحتجاجات الراهنة جزءًا من غضب عام ضد سوء إدارة البلاد. ومع ذلك، يمكن رؤية هذه الاحتجاجات من جوانب أخرى.
رغم كون الاحتجاجات محدودة النطاق، فإنها تمثل تحديًا كبيرًا بالنسبة للمؤسسة الحاكمة من حيث ثقلها، فهذه المرة القوة الدافعة وراءها هي السوق أو ما يعرف باسم "البازار".
و"البازار" لاعب أساسي في تاريخ إيران الحديثة، فخلال ثورة عام 1979، كان "البازار" هو الذي تسبب في إزاحة نظام الشاه محمد رضا بهلوي.
تقليديًا، مثل "البازار" مركز قوة رجال الدين الإيرانيين.
وخلافًا للتقليد السُني، توجد دائمًا علاقة قوية بين رجال الدين والطبقة الثرية في المذهب الشيعي.
وبشكل عام، يُطلب من جميع المسلمين إخراج ما لا يقل عن 2.5 بالمائة من أموالهم التي اكتمل نصابها، وذلك كزكاة لخدمة المجتمع المسلم.
لكن إضافة إلى الزكاة، يجب على أتباع المذهب الشيعي دفع 20 بالمئة من دخلهم السنوي أو قيمة عقاراتهم إلى أئمتهم.
ولا يُسمح للتابع بتوزيع هذه المبالغ مباشرة بين الفقراء أو إنفاقها على أي غرض آخر.
وهذا يعني أن طبقة رجال الدين الشيعة في إيران يسيطرون على 20 بالمائة من الدخل الإجمالي للسوق الإيراني.
في الماضي، كانت البازارات تسيطر عليها بعض العائلات، ودخلت هذه العائلات في السياسة، بعد ثورة 1979، وحصلت على امتيازات كثيرة وأصبحت أكثر ثراء.
كما أنهم مرتبطون بمراجع الشيعة المختلفين، الذين يدفعون لهم أموالا، وفي المقابل، كان مراجع الشيعة توفر لهم الحماية.
ومع نمو الاقتصاد الإيراني، ظهرت أيضاً قوة سوقية ليبرالية جديدة تتكون من مؤسسات ورجال أعمال متوسطين.
ومع ذلك، فإن قوة السوق الليبرالية الجديدة والبازار التقليدي استطاعا أن يتعايشا ويفضلان الاستقرار.
** "الحرس" في السوق
في غضون ذلك، بدأت قوة تجارية ثالثة في الظهور في الأفق الاقتصادي الإيراني، وهو الحرس الثوري الإيراني.
ويسيطر الحرس على الدولارات البترولية بيد ويحمل السلاح باليد الأخرى، وبرز تدريجيًا "كوحش تجاري".
وتزامن هذا الموقف العام مع أصعب العقوبات الدولية على إيران (بسبب برنامجها النووي).
خلال ولاية الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد (2005: 2013)، بدأت ثروة إيران في التضاؤل، بسبب العقوبات الدولية، في حين نمت نفقات البلاد بسبب مغامراتها الدولية.
أدى ذلك إلى مزيد من التوغل من جانب الحرس الثوري في السوق الإيرانية.
ونتيجة لذلك، خُنقت السوق الإيرانية من الحرس الثوري، واختنق الاقتصاد الإيراني بسبب العقوبات الاقتصادية الدولية.
في عام 2013، فاز حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية.
واستندت خطة روحاني الاقتصادية على ركيزتين، الأولى هي تأمين قناة تنفس للسوق من خلال دور متوازن للحرس الثوري في الاقتصاد.
والثانية هي تأمين قناة تنفس للاقتصاد الإيراني من خلال إبرام اتفاق مع المجتمع الدولي بشأن القضية النووية للبلاد (وهو ما حدث بالفعل عام 2015).
ورغم النجاح الذي تحقق في البداية، انهارت أركان خطة روحاني الاقتصادية في نهاية المطاف.
فمع إلقاء القبض على شقيقه في يوليو/ تموز 2017، اضطر روحاني للتعايش مع الحرس الثوري.
ومع انسحاب الولايات المتحدة اللأمريكية من الاتفاق النووي متعدد الأطراف، في مايو/ أيار الماضي، أُعيد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران.
لذلك، لم يكن روحاني مستعدًا للوضع الذي يواجهه الآن، ولهذا يوجد ضغط متزايدة عليه، ما جعل محللون يتوقعون أنه قد لا يتم ولايته.
** روحاني و4 سيناريوهات
في ظل هذه المعطيات، يحتاج المرء لدراسة 4 سيناريوهات لروحاني: الأول هو الاستقالة.
لكن روحاني أوضح، في 27 يونيو/حزيران الماضي، أنه لا يعتزم الاستقالة. كما لا يوجد مثل هذا التقليد في الثقافة السياسية الإيرانية.
والسيناريو الثاني هو إقصاء روحاني من جانب المرشد الأعلى، خامنئي، وهذا أمر قانوني في إيران. لكن خامنئي لا يستطيع اتخاذ مثل هذا القرار الخطير.
وكذلك احتمال إقصائه عبر انقلاب تقليدي من الحرس الثوري، لكن هذا سيثير قضية الشرعية، والرأي العام العالمي ليس جاهزاً لذلك كله.
وتعاني إيران بالفعل من نقص في الشرعية، ومن شأن انقلاب تقوم به قوة عسكرية سيئة السمعة يعتبرها كثيرون منظمة إرهابية، أن يزيد من تعقيد كل شيء.
أما السيناريو الرابع فهو مساءلة روحاني من جانب البرلمان، وهو ما يتطلب دعم ثلثي أعضاء البرلمان. وحاليًا ليس سهلًا تعبئة مثل هذا العدد.
وفي حين أن أيًا من تلك السيناريوهات قد يصبح حقيقة، إلا أنها للأسف لن تحل المشاكل الاقتصادية في إيران.
فروحاني ليس السبب الوحيد للأزمة الاقتصادية الراهنة ولا الحاجز في طريق حلها.
الحاجز الرئيسي هو الجهل العام والمتعمد بين النخب الحاكمة في إيران، فأي أزمة في البلاد يلقى فيها اللوم على أطراف مجهولة.
والأسوأ من ذلك، أنهم لا يريدون أن يفهموا أن الاقتصاد لا يمكن إصلاحه بالقوة.
ولهذا السبب، وبدلًا من معالجة مظالم السوق، فإنهم يهددونها.
مثلًا، بعد وقت قصير من اندلاع أعمال الشغب والاحتجاجات الراهنة، طلب روحاني علنًا من القضاء سحق المتظاهرين، وبعد ساعات قليلة هدد رئيس القضاء المحتجين بالإعدام وبأحكام السجن الطويلة.
** حل واحد فقط
في واقع الأمر، يوجد حل واحد للأزمة الاقتصادية الإيرانية وهو: العودة إلى مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة.
فخلافًا للتصور السائد، فإن الرئيس (الأمريكي دونالد) ترامب أكثر انفتاحًا على المفاوضات من أي رئيس أمريكي سابق، لكن أسلوبه مختلف تمامًا.
أسلوب ترامب أكثر تشابهًا مع أسلوب الجنرال ماك آرثر، الذي استدعى الإمبراطور الياباني هيروهيتو (الذي كان يعتبره اليابانيون إلها) إلى السفارة الأمريكية في طوكيو، يوم 27 سبتمبر/ أيلول 1945، واختلى به في غرفة مع مترجم فقط، وأبرم اتفاقًا معه في أقل من ساعة واحدة.
وكرجل أعمال، يعد وقت الرئيس ترامب ثمينًا، وبالتالي لا ينبغي إضاعته.
يستطيع ترامب فقط أن يتفاوض مع الحارس الحقيقي للسلطة (المرشد الأعلى في هذه الحالة)، على غرار الطريقة التي أجرى بها اللقاء مع كيم جونغ أون (الذي يعتبر شبه إله في كوريا الشمالية)، حيث جاء ترامب إلى سنغافورة، وجلس مع كيم وجهًا لوجه.
لا يهتم ترامب بالوضع الديني لخامنئي، فبالنسبة له، خامنئي هو ببساطة قائد إيران.
لذلك، فإن أي اتفاق يجب أن يكون قائمًا على حديث مباشر وجهًا لوجه مع خامنئي.
لكن، في هذه اللحظة، لا يبدو خامنئي مستعدًا لمثل هذا الخيار.
بالتالي، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا لطهران هو التحول إلى "فنزويلا الشرق الأوسط".
وحتى الآن، كانت استراتيجية النظام هي تخويف الإيرانيين من سيناريو سوريا، لكن المؤشرات ترجح أن الاضطرابات ستستمر، وحتى لو نجح النظام في قمعها، فستعود بقوة، وعاجلًا أم آجلًا، ستخرج عن نطاق السيطرة.
** تحدٍ لتركيا
الوضع العام لإيران ينذر بالخطر أيضًا بالنسبة لتركيا.
ففي حالة حدوث أي عدم استقرار خطير في إيران، من المرجح أن يكون لذلك تأثيرات مباشرة على تركيا.
من الواضح أن أي شخص يهرب من إيران لن يلجأ إلى العراق أو أفغانستان أو باكستان (وإنما سيتجه إلى تركيا).
ويجب أن نضع في اعتبارنا أيضًا أن إيران ليست سوريا، فلديها عدد كبير من السكان يقترب من عدد سكان تركيا.
ومع وجود أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري استقروا بالفعل في تركيا، لا تستطيع أنقرة تحمل موجة بشرية من إيران.
في حالة اللاجئين السوريين، استجابت الحكومة والمجتمع التركي بشكل إيجابي.
ويوجد ماضٍ مشترك وألفة دينية بين سوريا وتركيا، وهو ما ساهم كثيرًا في الوضع العام.
لكن فيما يتعلق بإيران، يوجد ماضٍ متعارض في ظل الاختلاف المذهبي.
لذلك، سيكون الأمر بمثابة تحديًا أمنيًا حقيقيًا لتركيا.
على ما يبدو، ليس من مصلحة تركيا تفضيل عدم الاستقرار في إيران.
لكن، وكما لوحظ في حالة العراق وسوريا والبوسنة، فإن القيم التركية لا تسمح لأنقرة بأن تقف إلى جانب أنظمة قمعية.
وسيشكل هذا تحديًا كبيرًا بشكل خاص لتركيا إذا استمر النظام الإيراني في قمع شعبه.
لذلك، سيتعين على تركيا، عاجلًا أم آجلًا، أن تختار بين الاستقرار والمبادئ.
** مفاوضات مباشرة
البديل الأكثر أمانًا بالنسبة لتركيا هو أن تذهب بشكل استباقي إلى خيار ثالث، وهو القيام بدور إيجابي وتوسطي بين المجتمع الدولي وإيران.
والآن بعد أن انتهت الانتخابات (أعيد انتخاب الرئيس أردوغان)، يتعين على تركيا استئناف لعب دورها الواجب.
فتركيا واحدة من أكثر الدول تأثيرًا في المنطقة، وتتمتع بقوة ناعمة ضخمة في العالم الإسلامي.
وبإمكان تركيا، كعضو في الناتو (حلف شمال الأطلنطي)، أن تظهر كمهندس لاتفاق جديد بين الولايات المتحدة وإيران.
وفي صميم هذا الجهد الدبلوماسي يجب أن تكون هناك مفاوضات مباشرة بين المرشد الأعلى والرئيس ترامب.
* الكاتب هو خبير مقيم في تركيا متخصص في السياستين الخارجية والداخلية لإيران.
الاناضول