رام الله الإخباري
لا أحد من المتابعين للشأن الروسيّ يمكن أن ينسى وجه الرئيس فلاديمير بوتين عندما بكى أمام عدسات التصوير، للمرّة الأولى، أثناء إجراء مراسِم تشييع عرّابه في السياسة أناتولي سوبتشاك إلى مثواه الأخير في مدينة سان بطرسبورغ يوم الرابع والعشرين من شهر شباط عام 2000، ولا سيّما أنّ الدموع التي انهمرت على كتف أرملة الفقيد، النائبة لودميلا فاردسوف، سرعان ما تحوّلت إلى عنوانٍ عريضٍ في نشرات الأخبار المحلّيّة والعالميّة، لتطغى دلالاتها إثر ذلك على أهمّيّة الحدث نفسه، ليس بالضرورة لأنّ الراحل كان من رعيل الديمقراطيّين الأوائل الذين تبنّوا حركة الإصلاحات المعروفة بـ"البيروسترويكا" أثناء عهد الرئيس السوفييتيّ ميخائيل غورباتشوف في ثمانينيّات القرن العشرين وحسب، وإنّما لأنّ مجرَّد مشاركة الرئيس بوتين شخصيًّا في الجنازة، شكَّلت بحدّ ذاتها تحدّيًا جريئًا للإرهاب القادم من شمال القوقاز، وخصوصًا بعدما كان القائد الشيشانيّ المتطرِّف شامل باساييف قد وضع لتوّه وقتذاك مكافأةً ماليّةً بقيمةِ مليونينِ ونصفِ المليونِ دولارٍ لمن يأتيه برأس سيّد الكرملين الجديد.
على هذا الأساس، بادر الرئيس بوتين يومذاك إلى إطلاق مقولته الشهيرة عن أنّ "الكلاب لا تعضّ إلّا من تخاف منهم ولا تهزّ ذنَبَها إلّا لمن يُشعِرونها بأنّهم يسيطرون على الموقف"، الأمر الذي فُسِّر في حينه على أنّه رسالةٌ شديدةُ اللهجةِ موجَّهةٌ لكافّة الحركات الانفصاليّة في شمال القوقاز، مؤدّاها أنّ الوسائل الإرهابيّة لن تتمكَّن من الحدّ من عزيمته على مواصلة حربه التي كانت لا تزال في أوج اشتعالها للشهر الرابع على التوالي في الشيشان، منذ أن كان رئيسًا للوزراء في عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين، وبينما كان لا يزال رئيسًا بالإنابة لروسيا الاتّحاديّة في أعقاب استقالة يلتسين من منصبه ليلة رأس السنة (1999 – 2000) للشهر الثاني على التوالي.
وإذا كان المتابعون للشأن الروسيّ يعرفون أيضًا أن الرئيس بوتين تمكَّن من تعزيز مواقعه داخل قصر الكرملين، بسرعةٍ قياسيّةٍ، متّكئًا بذلك على الرفاق القدامى في أجهزة الأمن والاستخبارات السوفييتيّة من أمثال سيرغي إيفانوف ونيقولاي باتروشيف وإيغور سيتشين وغيرهم، وبالتالي من حسم الحرب الشيشانيّة لصالحه على جبهات القتال، فإنّ ما لا يعرفه الكثيرون هو أنّ حياته السياسيّة، خارج نطاق لجنة أمن الدولة (كي جي بي)، كانت قد بدأت فعليًّا في أعقاب إعادة انتخاب أناتولي سوبتشاك عمدةً لمدينة سان بطرسبورغ يوم الثاني عشر من شهر حزيران عام 1991، حيث تمّ تعيينه رئيسًا للجنة العلاقات الدوليّة في مكتب العمدة، ليُشرِف على سياسات الاستثمار والمشروعات المشترَكة مع شركاء الأعمال الأجانب، بمن فيهم وزير الخارجيّة الأميركيّ الملقَّب بـ "الثعلب العجوز" هنري كيسنجر، وذلك قبل أن يخسر سوبتشاك معركة الانتخابات التي تولّى بوتين إدارة حملتها في ربيع عام 1995، لتبدأ إثر ذلك عمليّة ملاحقته قضائيًّا بتهمٍ تتعلَّق بالفساد، ما اضطرّه للفرار إلى باريس، ومن ثمّ للعودة إلى موسكو بتغطيةٍ من بوتين نفسه في أعقاب تسلُّمه مهامّ منصبه بصفةِ رئيسٍ بالإنابة في مطلع الألفيّة الثالثة، وليَلقى حتفه إثر ذلك جرّاء إصابته بنوبةٍ قلبيّةٍ حادّةٍ أثناء عمله بصفةِ مستشارٍ في فريق الرئيس الجديد.
هل يبكي بوتين مرة ثانية؟
من هنا، فإنّ الإعلان الرسميّ نهار أمس الأربعاء عن ترشُّح الصحافيّة كسينيا سوبتشاك، إبنة الراحل أناتولي، لدورة الانتخابات الرئاسيّة الروسيّة المقرَّرة العام المقبل، لا بدّ من أن تكتسِب أهمّيّةً خاصّةً، أو ربّما بمعنى أدقّ، نكهةً خاصّة، ولا سيّما أنّ هذه المترشِّحة التي كانت لا تزال صبيّةً يافعةً عندما أجهش الرئيس بوتين بالبكاء على كتف أمّها أثناء إقامة مراسِم تشييع والدها إلى مثواه الأخير قبل سبعةَ عشرَ عامًا، وعلى رغم أنّ فرَص فوزها معروفةٌ مسبَقًا بأنّها محدودةٌ للغاية، سارعت إلى الإفصاح عن أنّها تقدِّم نفسها باعتبارها "المترشِّحة البديلة لجميع المترشِّحين الآخَرين الذين شاركوا في سباق الرئاسة في وقتٍ سابقٍ، والذين يتوقَّع المحلّلون والباحثون السياسيّون مشاركتهم في انتخابات الرئاسة عام 2018".
وعلاوةً على ذلك، فقد أعلنت سوبتشاك أيضًا أنّها تترشَّح "نيابةً عن الجميع الذين لا يستطيعون أن يصبحوا مترشِّحين"، وأنّها مستعدّةٌ للبتّ في مطالب اليمينيّين واليساريّين، لأنّ "قضيّة الفساد وقضيّة عدم تغيير السلطة وعدم خضوعها لأيّ رقابةٍ أكبر من خلافاتنا السياسيّة"، معتبِرةً أنّ مشاركتها في انتخابات الرئاسة تأتي في سياق "خطوةٍ نحو الإصلاحات الضروريّة"، ومشدِّدةً كذلك على أهمّيّة رفع "صوت النساء" في السياسة الروسيّة.
وبحسب ما نقلته وكالة "سبوتنيك" الروسيّة من فحوى حديث سوبتشاك لقناة "دوجد" المحلّيّة، فمن المقرَّر أن تعقد المترشِّحة الجديدة مؤتمرًا صحافيًّا كبيرًا يوم الرابع والعشرين من الشهر الجاري للردّ "على جميع الأسئلة"، وكذلك لكي تطالب بالسماح للسياسيّ المعارِض أليكسي نافالني بالمشاركة في الانتخابات، وبإسقاط جميع التهم عنه، علمًا أنّه كان قد أُدين في وقتٍ سابقٍ بتهمة اختلاس الأموال، وصدر بحقِّه حكمٌ قضائيٌّ بالسجن مع وقف التنفيذ، ولكن من دون منحه حقّ المشاركة في الانتخابات إلّا بعد عام 2028.
وإذا كانت الوكالة نفسها قد أوضحت أيضًا أنّ كسينيا سوبتشاك هي من مواليد عام 1981، وتخرّجت من معهد موسكو للعلاقات الدوليّة عام 2004، لتعمل منذ ذلك الوقت في مجال تقديم مختلِف البرامج التلفزيونيّة والإذاعيّة، وتأليف عددٍ من الكتب، وأداء أدوارٍ سينمائيّةٍ في العديد من الأفلام، قبل أن تُشارِك اعتبارًا من عام 2011 في تظاهرات المعارَضة في موسكو، وتركِّز في عملها الصحافيّ على الشؤون السياسيّة، بينما كان معظم مشاريعها السابقة يتّسم بطابعٍ ترفيهيٍّ، فإنّ الإصرار على إسقاط الإشارة، بزهوٍّ ضمنيٍّ، إلى هذا "الطابع الترفيهيّ" في سيرة المترشِّحة الجديدة للانتخابات الرئاسيّة الروسيّة كسينيا سوبتشاك، لا بدّ من أن يحمل في طيّاته الكثير من المعاني غير الترفيهيّة، أقلُّه بالنسبة إلى سرّ الدموع التي ذرفها فلاديمير بوتين في جنازة عرّابه فيتالي سوبتشاك قبل سبعة عشر عامًا.. وصدَقَ الأديب الروسيّ الأوكرانيّ الأصل تيراس شيفكينكا عندما قال ذات يومٍ: "إنّ روسيا لا يمكن فهمُها بالفعل.. إنّ روسيا تُحَسُّ فقط".. فهنا يكمُن البيت في القصيد!
لبنان 24