رام الله الإخباري
أن تكون فلاديمير بوتين في هذه اللحظات هو مطلب معظم زعماء العالم الغربي. نموذج الرجل الذي يفعل كل شيء، من دون أن يُحَاسَب أو يرتدع. وكلما يتجاوز مطلق إنسان القوانين، يُصبح "بطلاً" أو "شخصاً لا يطال". هكذا بوتين، منذ حروب الشيشان في التسعينيات، وصولاً إلى سورية حالياً.
يمكنه الآن عقد الصفقات مع الأميركيين في الشرق الحلبي أو الرّقة، ويُمكنه، في الوقت عينه، الاتفاق مع الأتراك على خطوط النفط، ولن يجد من يتهمه بـ"الإبادة" أو "التّدخل في شؤون بلدانٍ أخرى". يمكنه فعل ذلك كله من دون أن يسرق منه أحدٌ هذه الأفضلية، فهو لم يكن بالأساس هنا، في الشرق، لو لم يكن هناك حدّ أدنى من غضّ نظر أميركي عن تدخّله، على اعتبار أن أي خيار آخر يعني مواجهةً غير محسوبة للطرفين.
في سورية، يعتبر نفسه "الرقم واحد". لهذا السبب، يعلن عن وقف العمليات العسكرية أو بدئها، وفقاً لما يراه هو مناسباً له، لا وفقاً لحسابات إيرانيةٍ بالأساس، أو حسابات النظام السوري. يعلم أنّ لا أحد قادر على منعه في فعل ما يشاء. في لحظةٍ ما، بات الرجل نقطة جذبٍ لمختلف القوى السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط. أما شعاراته فيمكن أن يضعها جانباً.
يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر
أعلن عن سحب قطع عسكرية روسية في مارس /آذار الماضي، لكننا الآن بتنا أمام مرحلة توسّعٍ للوجود العسكري الروسي في سورية. أعلن عن نشر منظومة "أس 400" التي يصل مداها إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، في قاعدة حميميم السورية الساحلية، لكن تلك المنظومة "لم تنتبه" لعشرات الغارات الإسرائيلية، سواء في استهداف قادةٍ من حزب الله، أو في قصف قوافل أسلحة تابعةٍ للحزب، أو في قصف مواقع لقوات النظام السوري، من الجولان إلى دمشق.
مع ذلك، فإن بوتين "بطل قومي". لم يعلّق على المستوطنات العشوائية في فلسطين المحتلة، بل تشي علاقته الوثيقة برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن شرط الوجود الروسي في الشرق مشابه للوجود الأميركي في محطات سابقة: أمن إسرائيل فوق كل اعتبار.
لا يعود ذلك فقط إلى قوة بوتين وتأثيره، على محيطه الضيّق ثم المحيط الأوسع، بل إلى أخطاء غربية جعلت من روسيا الدولة الأقوى في العامين الأخيرين. عادةً، حين تتجانس يوميات فرد أو مجتمع مع حاجاته، من دون الشعور بنقص الحاجات، لا يعود منتبهاً إلى فردٍ أو مجتمع يشعر بنقص في تلك الحاجات. بالتالي، حين يبدأ صاحب "النقص في الحاجات" رحلة العودة إلى "تأمين تلك الحاجات"، وسط شعور بـ"الاضطهاد"، يتحوّل شعوره أكثر نحو "التشبث بالمكتسبات" إلى حدٍّ قد تبدر منه تصرفاتٌ عنيفة أو متهورة.
هكذا روسيا التي انتقلت من شبه دولةٍ بائسةٍ ومفكّكة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، إلى دولةٍ في وسعها أن تحلم مع بوتين بمركز قيادي في العالم، مدعومة بنزعة قومية روسية وأعمال عسكرية في الجوار. الغرب "المصدوم"، عدا المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لم يدرك كيفية التعاطي مع الصعود الروسي، بل يشعر بأنه "أضعف من مواجهته حالياً". لقد بلغت روسيا، مع بوتين حالياً، مرحلة شبيهة بخمسينيات القرن العشرين وستينياته أيام الاتحاد السوفييتي. مرحلة "القوة" و"انشغال الأقطاب الأخرى (الأميركي تحديداً)" بملفات عدة، داخلية وخارجية.
لن تكون المرحلة المقبلة في العهد الروسي تراجعية، فبوتين الذي اعتاد على "قضم" المساحات الجيوبوليتيكة، من دون أن يُحاسب عليه، بات مستعداً أكثر من قبل للهيمنة السياسية على ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا وأوكرانيا وجورجيا ومولدافيا وغيرها، في العام المقبل. على اعتبار أن "الأمة الروسية" تمتد من الوسط الآسيوي إلى مداخل الغرب الأوروبي. أما المجازر في سورية فـ"تفصيلٌ صغير" أمام كل شيء.
العربي الجديد - بيار عقيقي