جاء المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى المناظرة الثالثة والأخيرة ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، ليس لإقناع تلك الشريحة الضئيلة من الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم حتى الآن ليصوتوا له، بل لمواصلة سياسة "الأرض المحروقة" التي اعتمدها في المقابلة الثانية، بهدف ترهيب كلينتون ومؤيديها لكيلا يشاركوا في الانتخابات.
ولكن ترامب جر البلاد معه إلى أرض داكنة حين واصل تحديه لمنتقديه بمن فيهم قيادات حزبه وتشكيكه بشرعية وصدقية العملية الانتخابية ذاتها، ما يمكن اعتباره هفوة سياسية غير معهودة.
وحين رفض ترامب أن يلزم نفسه مسبقا بقبول نتائج الانتخابات، قائلا إنه سوف يعلن عن موقفه بعد صدور النتائج، ومضيفا "سوف أبقيكم في حالة ترقب"، فإنه ارتكب برأي العديد من المراقبين والمؤرخين خطأ فادحا ستكون له مضاعفات سلبية عليه وعلى المرشحين الجمهوريين لعضوية الكونغرس وحاكمية الولايات يوم الانتخابات. ادعاء ترامب هذا صدم كلينتون التي قاطعته قائلة هذا موقف "مروع"، وكانت بذلك تعكس شبه حالة الإجماع في أوساط القيادات الجمهورية والديمقراطية التي ترى في هذا التهديد مقدمة لأعمال شغب.
وكان ترامب في الأسابيع الماضية يتهم ما يصفه بمؤامرة تشارك فيها كلينتون ووسائل الإعلام تخطط لسرقة الانتخابات منه. ولم يقدم ترامب حتى الآن أي أدلة تدعم هذه الاتهامات. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية التي يدعي فيها مرشح حزب كبير قبل الانتخابات أن نتائجها ستكون مزورة.
حديث ترامب عن تزوير الانتخابات أثار مشاعر الاستياء والدهشة، لأن تزوير الانتخابات الرئاسية شبه مستحيل ويفترض بترامب أن يكون مدركا لذلك. وبعكس الديمقراطيات البرلمانية الأخرى، لا يوجد للحكومة الفيدرالية في واشنطن أي دور في العملية الانتخابية، كما لا توجد سلطة مركزية تشرف عليها مثل وزارة الداخلية في الدول الأخرى. (وزارة الداخلية الأميركية تعنى بقضايا لا علاقة لها إطلاقا بالأمن، بل إن إحدى مسؤولياتها الرئيسية هي الإشراف على الحدائق والمحميات الوطنية في البلاد).
الأطراف التي تدير وتشرف على الانتخابات هي آلاف المقاطعات المحلية بالتنسيق مع المسؤولين في الولايات الخمسين. وتحسب النتائج وفقا لأعمال الفرز في كل ولاية على حدة. المسؤولون المحليون ينتمون إلى الحزبين، كما أن أكثرية حكام الولايات خلال هذه الدورة الانتخابية ينتمون إلى الحزب الجمهوري (31 حاكما جمهوريا، مقابل 18 ديمقراطيا، ومستقل واحد)، ما يجعل الادعاءات بتزوير الانتخابات ضد المرشح الجمهوري أمرا مثيرا للدهشة والتساؤلات.. والسخرية.
جاءت كلينتون إلى المناظرة من موقع قوي نسبيا، لأن معظم استطلاعات الرأي – تلك التي تجري على المستوى الوطني، وتلك التي تجري على مستوى الولايات المتأرجحة التي ستحسم السباق- أظهرت تقدمها ضد ترامب بنسب تتراوح بين 4 و11 نقطة.
وأظهرت استطلاعات الرأي الأولية عقب المناظرة وتعليقات العديد من المحللين أن هيلاري كلينتون فازت في المناظرة الثالثة التي تميزت ربما أكثر من سابقاتها بنبرتها الجارحة، حيث وصفت كلينتون ترامب بأنه "دمية" بيد الرئيس الروسي فالديمير بوتين، بينما وصفها ترامب بالمرأة البغيضة. وجاء في استطلاع لشبكة "سي أن أن" أن كلينتون تفوقت على ترامب بثلاث عشرة نقطة.
التصريحات الأولية لبعض القيادات الجمهورية، اتسمت بنيرة متشائمة عكست تسليم هذه القيادات بخسارة البيت الأبيض للمرة الثالثة على التوالي، والأهم والأخطر بالنسبة لهم هو الانحسار التدريجي لفرصهم بالحفاظ على أكثريتهم في مجلسي النواب والشيوخ لأن المرشح الرئاسي بدلا من أن يساعدهم في الانتخابات هو في الواقع عبء على العديد منهم، حيث من المتوقع أن تساهم شعبيته المتدنية بجرهم معه إلى الهزيمة. وسارع قادة جمهوريون مثل السيناتور والمرشح الرئاسي السابق ليندزي غراهام، والسيناتور جيف فلايك بخلق مسافة بينهم وبين ترامب وتحديدا بالنسبة لشرعية وشفافية العملية الانتخابية.
واعتبر دفاع ترامب الحماسي والقوي عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي يعتبر سباحة خطيرة ضد التيار التقليدي الأميركي، خاصة الجمهوري المشكك تقليديا بنوايا وسياسات قادة الكرملين.
ترامب وقع في الكمين الذي نصبته له كلينتون لاستفزازه للدفاع عن بوتين وهذا ما فعله باستياء واضح، بما في ذلك تبرئته لروسيا من مسؤولية اختراق الحسابات الإلكترونية لمؤسسات وشخصيات أميركية، (مثل الرسائل الإلكترونية للحزب الديمقراطي، والحساب الخاص لمدير حملة كلينتون، جون بوديستا). وكانت الاستخبارات الأميركية قد أكدت أن روسيا تقف وراء هذه الاختراقات، ولذلك لم يكن مستغربا أن تثير مواقف ترامب هذه استياء عارما، دفع بالبعض للقول إن هذا الموقف سيساهم في خسارته للانتخابات.