أيهما أكثر ذكاء وربما خبثاً، هل هو توم أم جيري؟.
لا جواب واضح على السؤال، فذلك يتوقف على الزاوية التي يراقب من خلالها المشاهد، ذلك أن الحكم لا يتعلق بنتيجة اللعبة بينهما "لا غالب ولا مغلوب"، وإنما بالشد والرخي، واللف والدوران، وتبادل الأدوار، وفي النهاية يظهر الاثنان فائزان ذكيان.
بالطبع.. لا نحاول هنا تحليل أفلام الكرتون الأشهر "توم وجيري"، ولكننا استعرنا تشبيه الكاتب اللبناني سمير عطا الله لكيري بـ"جيري"، في مقال "قبيلة اللو" قبل يومين بجريدة الشرق الأوسط.
بعيداً عن الشخصيات الكرتونية وقريباً من الواقع، أيهما أكثر ذكاء وربما خبثاً، هل هو جون كيري أم سيرغي لافروف؟
كيري-لافروف، علاقة بين خصمين تارة وبين صديقين تارة أخرى، ويقول بعض المحللين إن الرجلين يلعبان سياسة، علاقة وصفها بعض المحليين بأنها "علاقة الأضداد" ما بين السيد "لا" والسيد "نعم"، كيف تطورت العلاقة بين الثنائي الديبلوماسي الغريب والمتناقض "كيري (السيد نعم)-لافروف (السيد لا)"، واللذين أصبح اسميهما مقترناً ببعضهما إلى حد كبير، فهما الثنائي السياسي الذي اجتمع على مدى سنوات من أجل الموضوع السوري، اجتمعا مع بعضهما أكثر مما اجتمعا مع رؤساء دولتيهما، وبالطبع تفاوضا وتجولا وتحدثا، وشربا الفودكا الروسية وأكلا البيتزا الأميركية معاً بحضور الصحافيين "11 سبتمبر 2016، عندما دخل وزير الخارجية الروسية بملامح صارمة ولهجة جدية وبعد انتظار طويل، إلى القاعة المخصصة للصحفيين في ختام جولة مباحثاته مع كيري حول هدنة العيد في سوريا، دخل يومها لافروف حاملا زجاجتي فودكا مخاطبا الصحافيين بالقول: "البيتزا من الوفد الأميركي، نحن نأتي بالفودكا".
تشاؤم.. تفاؤل.. وهكذا دواليك
خلال مسيرة سنوات من العمل على الملف السوري الذي أرّق العالم كله، تناوب التفاؤل والتشاؤم على اجتماعات كيري- لافروف، وتعلم الجميع من صحافيين ومراقبين ومحللين أن التفاؤل والتشاؤم الأميركي الروسي لن يكون أكثر من جولة قصيرة، وسيتبادلان الأدوار بالاجتماع المقبل.
فخرج اليوم السبت 24 سبتمبر الوزيران من اجتماعهما في نيويورك بانطباع تشاؤمي، وإشارات متناقضة بين الطرفين حول النتيجة "المحدودة جداً"، كما وصفها كيري لهذا الاجتماع، وإن لم يتحدث كيري صراحة عن فشل، فإن لافروف في المقابل، لم يشر إلى أي تقدم محتمل بعد المحادثات.
ليس ببعيد عن اليوم وقبل 3 أيام فقط شهدت جلسة مجلس الأمن الدولي الخاصة في سوريا خلافا بين واشنطن وموسكو بشأن المعارضة السورية المسلحة، فهاجم كيري روسيا "النظام السوري وروسيا ليسا بحاجة إلى اتفاقات ومفاوضات كي يوقفا قصف المنشآت الطبية في البلاد"، وذهب كيري أبعد من ذلك –يومها- وانتقد التضارب في التصريحات الروسية بشأن الهجوم على قافلة الإغاثة الأممية في حلب، فما كان من لافروف إلا أن رد على زميله الأميركي باتهام فصائل المعارضة السورية بانتهاك الهدنة أكثر من 300 مرة.
ولكن ورغم كل تلك التناقضات فإنه يبدو واضحاً لمن يراقب الصحافة الروسية أن الروس يتعاطفون مع هذا الثنائي السياسي "كيري- لافروف" فالصحافة الروسية لا تنتقد كيري كثيراً مثلما تفعل مع الرئيس باراك أوباما.
ونقل تقرير صحيفة الديلي بيست الأميركية قبل عدة أشهر عن المحلل السياسي الروسي دميتري أوريشكن، قوله "لن يتطلب الأمر الكثير من آلة الدعاية الخاصة بنا لتحويل كيري إلى شخص متوحش أو سادي، ولكن لافروف لا يسمح بذلك، فهو يقدر علاقتهما الجيدة".
العلاقة في أسوأ أحوالها
كتب عرّاب السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر قبل أشهر قليلة "فبراير شباط 2016" أن العلاقات بين موسكو وواشنطن في الوقت الراهن "تكاد تكون في أسوأ أحوالها منذ انتهاء الحرب الباردة".
يبدو رأي كيسنجر متوافقاً مع الأحداث الدموية التي تسيطر على العالم فيما يتعلق بالملف السوري الذي يديره الرجلان الممثلان للدولتين الأكبر، إذ تشير التقارير إلى التلاعب الروسي بأميركا، وتظهر الأحداث والتطور على الأرض أن لافروف روسيا تجاهل كيري أميركا، وأظهر الضعف الأميركي بوضوح في أكثر من مناسبة.
وازدادت الانتقادات في الداخل الأميركي لسياسة الرئيس أوباما ورجله الأول جون كيري، وحمّله الكثيرون من السياسيين والصحافيين مسؤولية الكارثة الإنسانية التي اجتاحت سوريا وتسربت للعالم كله.
يتناقض توصيف كيسنجر عن العلاقة الروسية الأميركية مع آراء سياسيين أميركيين، إذ نقلت الصحافة الأميركية بعض الآراء حول دور كيري ولافروف بتقدم العلاقة بين البلدين الأكبر في العالم، وعلى الرغم من أنهما اختلفا حول الكثير من القضايا الرئيسية في الموضوعين الأساسيين "أوكرانيا، سوريا"، إلا أن الخلاف لم يقطع العلاقات والمحادثات الديبلوماسية، إذ إنهما مازالا يجلسان ويتحدثان لساعات وخصوصاً فيما يخص الموضوع السوري.
ولكن.. هل يمكن أن تبقى العلاقة قبل قصف قافلة المساعدات الأممية كما بعد قصف القافلة، وهل يمكن للديبلوماسية مهما كان لاعبوها "محترفين" أن تتجاهل الانتقادات والاتهامات التي تطايرت بين الطرفين، ففعل قصف القافلة جاء أكثر استفزازاً من تحليق قاذفاتها السوخوي فوق حاملة الطائرات الأميركية قبل أشهر قليلة، ووصف كيري حينها التحليق بأنه خطير واستفزازي، وبدا يومها أنه يهدد روسيا عندما نوّه لقدرة الجيش الأميركي على إسقاط الطائرات الروسية، ولكن روسيا ردت يومها بأن الطيارين الروس لم يخرقوا أي قواعد دولية وانتهى الأمر، وربما سينتهي موضوع قصف قافلة المساعدات بتمييع القضية وتجاهلها مع الوقت، ومحاولة إيجاد كبش فداء ليتحمل عبء القصف.
توم وجيري
في منتصف شهر مايو 2013، أعلن كيري للعالم بلغة حماسية أنه و"صديقه سيرجي" وافقا على المشاركة في استضافة مؤتمر السلام السوري في جنيف.، وبعدها مباشرها نقلت وكالات الاستخبارات الأميركية أن روسيا زودت نظام الأسد بصواريخ متطورة، وعلق في ذلك الوقت السيناتور جون باراسو "من يسأل روسيا لدعم مصالح الولايات المتحدة في سوريا هو كمن يسأل الثعلب لحراسة حظيرة الدجاج."
لمدة ثلاث سنوات، من جنيف الأولى إلى جنيف الثاني، إلى فيينا، إلى جنيف الثالثة، مروراً بكل قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بسوريا، وكل تلك الزيارات المكوكية والمحادثات الثنائية، لم تثمر إلا على زيادة نفوذ روسي، وضعف أميركي.
في سبتمبر 2015 حصل الأسوأ بالنسبة للسوريين وللسياسة الأميركية، فتدخلت روسيا مباشرة إلى جانب صديقها بشار الأسد، وأخذت زمام المبادرة واستهدفت المعارضة المسلحة بدون التفريق ما بين فصائل متشددة وأخرى معتدلة ما أغضب الأميركيين.
وفي بداية شهر شباط عام 2016، أصر كيري على وقف إطلاق النار فورا، فردت روسيا بحملات قصف رهيبة وشديدة وبضعة مجازر في حلب، وكان آخرها قصف وإحراق قافلة المساعدات الدولية.
وقبل يومين رفضت روسيا مقترحا لكيري بتعليق تحليق الطائرات الروسية والسورية فوق مناطق المعارك السورية ووصفه بأنه "غير عملي"، ما يمحي كالعادة كل تصريحات كيري- لافروف الماضية، ويصل الموضوع لحائط مسدود كما كل مرة.
لافروف.. كيري.. أيهما الأقوى
قال المحلل الروسي أوريشكن قبل أشهر بحسب صحيفة "الديلي بيست الأميركية" "إن وظيفة لافروف أصعب بكثير، لأنه لا يوجد لديه استقلال وإنما ينفذ قرارات بوتين فقط، وحتى لو اختلف مع بعض التحركات، فلم يكن لديه الخيار".
ومن يظن أن الرجلين على علاقة سيئة لكثرة التناقضات والخيبات بعد كل تصريح من أي منهما، فإنه مخطئ، إذ قال لافروف قبل أشهر قليلة إنهما "على علاقة جيدة جداً وأضاف، بحسب ما ذكر تقرير الـ"دايلي بيست"، "ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن نبتسم من الأذن إلى الأذن، ونعبر عن الفرح خلال كل اجتماع لإرضاء الصحفيين الروس والأميركيين وغيرهم."