رام الله الإخباري
ليس هناك مدينة إسرائيلية تحظى بما تحظى به تل أبيب من شُهرة، فهي في الواقع “عاصمة إسرائيل الاقتصادية”، وهي المدينة الأكثر ثراءً، تطوّرًا و”عبرانيّة”؛ فعندما تأسست تل أبيب على أنقاض يافا وقراها، تأسست لكي تكون “المدينة العبرية الأولى التي يسكن فيها العبريون بنسبة 100%”، وفعلًا فقد تطوّرت هذه المدينة حتى صار فيها اليوم جامعة من أرقى جامعات العالم، كما وتعتبر نموذجًا للديمقراطية وللحرية.
ولكن ماذا عن الوجه الآخر لتل أبيب، ما يُسمى جنوب تل أبيب، وكيف حال “حارة الأمل” أو حتى “حال الأفارقة” هناك؟ بل كيف حال اليهود الشرقيين الذين سكنوا المنطقة في البدايات ولماذا تخلّت الدولة عنهم وجعلت أحياءهم أشبه بـ No Man’s Land، تعاني من الفقر، والتلوث، والدعارة والسموم.
لا أمل.. في حارة الأمل!
جُرذان بين البيوت، رائحة البول تنتشر في الأزقة، إبر المخدرات مُلقاة على طرف الشارع، نفايات مكدسة في الشوارع، وعاهرات تنتظر أي فُرصة لممارسة الجنس ولو بأبخس ثمن، ورجال شرطة كثر يُحاولون الحفاظ على الأمن والأمان.. ولكن لا أمان، هذه كُلها مشاهد حقيقية سجّلتها عدسة برنامج “الوجه الحقيقي” الذي يُبث على القناة الإسرائيلية العاشرة في مُحاولة للكشف عن حجم المأساة في أحياء جنوب تل أبيب ومن بينها حي الأمل (شخُونات هـَ تكفا)، هذا الحي الذي تم تحويله إلى “غيتو” للمهاجرين الأفارقة من أريتريا والسودان الذين تسللوا إلى إسرائيل بالأخص بعد عام 2007.
مع وصول عدد المُهاجرين هناك إلى حوالي 100 ألف مهاجر أصبحت حارة الأمل هي أسوء الأحياء في تل أبيب، مما اضطر كثيرًا من اليهود لهجرة هذا الحي حيث الحياة لا تُطاق، بل إن أكثر من شخص ظهر في البرنامج أكّد أنه لا يُمكنه الهجرة حتى لا يخسر منزله الذي أصبح بلا “قيمة” مقارنة بمنازل شمال تل أبيب، ويؤكد تقرير لصحيفة يديعوت أحرونوت أن سعر شقة في شمال تل أبيب يُعادل سعر 6 شقق في جنوب تل أبيب وأكثر، فبينما سعر المنزل في جنوب تل أبيب يصل إلى 145 ألف دولار، هذا إن قبل أحد بشرائه أصلًا، فإن سعر المنزل في شمال تل أبيب يصل إلى 500 ألف دولار وأكثر من ذلك بكثير، فقد يصل إلى مليون دولار أحيانًا.
هذا الغلاء في شمال تل أبيب خاصة وفي تل أبيب عمومًا يجعل عجوزًا مثل “ديزي”، وهي يهودية من أصول يمنية ترعرعت في جنوب تل أبيب؛ تبقى في بيتها من قلّة حيلتها والفقر الذي تعيش فيه، حيث لا مأوى لها إلا سكنها الذي عاشت فيها طيلة عمرها، حيث تجد اليوم نفسها اليهودية الوحيدة في المبنى مع “الكثير الكثير من الأفارقة” كما تقول، وبحسب زعمها فإن “الأفارقة” يكرهونها ويشتمونها بشكل دائمٍ، بل إنها أكدت بأن أحد الشباب طلب أن يُضاجعها يومًا وذات يوم أبرحوها ضربًا مما جعلها ترقد في المستشفى لأسابيع، وتؤكد ديزي أنها تعيش اليوم في رعب شديد لدرجة أنه إذا ما انتهى الحليب من ثلاجتها في الليل فإنها تتصل بالشرطة، وتنتظر حتى تأتي دورية شرطة لتأخذها إلى الحانوت لشراء الحليب.
لماذا لا يُغلقون بيوت الدعارة؟
“إن سياسة وزير الداخلية في موضوع الهجرة تُسيء إلى “الصهيونية” وستجعل من إسرائيل دولة أخرى تُسمى “غرب السودان”.
يحظى جنوب تل أبيب بلقب “مركز الدعارة في إسرائيل” حيث تكثر بيوت الدعارة بشكل منقطع النظير، وعلى سبيل المثال نجد المدوّنة الإسرائيلية شيرا جيلزرمان تكتب في مدوّنتها عن حكايتها مع “بائعة هوى” وجدتها مُلقاة على حافة الطريق في أحد الأحياء القريبة من محطة الحافلات المركزية في تل أبيب حيث يمر آلاف الناس يوميًا، ولكن أحدًا لم يُبالِ بأمرها حتى اتصلت هي نفسها بالإسعاف، إلا أن العاهرة نفسها رفضت المساعدة وزعمت أن كُل شيء طبيعي ولم يغتصبها أحد، ولكنها اعترفت لها لاحقًا بأن كثيرين يُمارسون معها الجنس ولا يدفعون لها، كما أنها تعرضت لعملية سرقة وتعيش منذ فترة بلا بطاقة هوية شخصية، وتقول أنها تعاني من مرض الفصام (الشيزوفرينيا)، ورغم ذلك فإنها لم تحصل على مخصصات التأمين الوطني لفترة طويلة فقط لأنها فقدت هويتها وأنها متكاسلة لاستصدار واحدة جديدة، وتكتفي بممارسة الدعارة لكسب قوت يومها.
وفي تقرير لصحيفة جلوبوس الاقتصادية الإسرائيلية حول جنوب تل أبيب، عبّر رجل من الشرطة عن صعوبة الحال في تلك المنطقة بقوله: “ما أسهل أن يُقال لنا “لماذا لا تغلقون بيوت الدعارة هنا” ولكنني أؤكد لك أننا لو فعلنا ذلك، لوجدت كُل أسبوع أربع إلى خمس عمليات اغتصاب في هذه المنطقة. الناس بحاجة للجنس، وعندما يتواجد لديك في نفس المنطقة عشرات الآلاف من الرجال وفقط 1500 امرأة، فليس لدينا خيار إلا أن نسمح بالدعارة. إن هذا الأمر بمثابة مفتاح للضغط الاجتماعي، لو لم يكن موجودًا، فإن الضرر الحاصل أكبر بكثير من الفائدة”. وفي نفس التقرير، اعترف أحد كبار المسؤولين في الشرطة في منطقة أنهم وبسبب سوء الأحوال فإنهم يضطرون للتغاضي عن كثير من المشاكل للتعامل مع مشاكل أكثر تعقيدًا وعلى حد قولهم “لا يوجد خيار آخر”.
في مطلع 2015، حصلّت حادثة هزّت جنوب تل أبيب، عندما دخل شاب إرتري إلى ساحة منزل امراة في الثمانينات من عمرها، أخرسها، عرّاها ومارس معها الجنس أكثر من مرة بالإضافة إلى أنه قام بتعذيبها، هذه القصّة لم يُسمح بنشرها في مطلع الأمر خوفًا من أن تتفجّر الأوضاع في جنوب تل أبيب، فالأوضاع مشحونة منذ 2007، حيث يعتبر البعض أن سياسة وزير الداخلية في موضوع الهجرة تُسيء إلى “الصهيونية” وستجعل من إسرائيل دولة أخرى تُسمى “غرب السودان”، حيث يعتبر بعض أعضاء الكنيست من الأحزاب اليمينية أن “السودانيين هم سرطان في الجسد الإسرائيلي” وأن “دولة إسرائيل في حرب مع دولة عدو جُل سكانها من المُهاجرين وعاصمتها جنوب تل أبيب”.
المهاجرون ليسوا السبب الحقيقي!
“إن السبب في إهمال هذه البقعة في المدن الأكثر ثراءً ليست بسبب وجود المهاجرين فيها، فالمهاجرون لم يأتوا إلى هذه الأحياء إلا عام 2007 ولكن ماذا عن الفترة التي سبقت ذلك؟”.
ما يحصل في جنوب تل أبيب، لا يُمكن استيعابه حقًا إلا عند زيارة هذه الأحياء ولا يمكن استيعاب أسبابه ببساطة؛ فتل أبيب أغنى المدن الإسرائيلية وقد بلغت ميزانيتها عام 2013 حوالي 1.3 مليار دولار، صُرف منها حوالي 4 ملايين دولار على الحدائق وحدها، و4 ملايين أخرى على تعبيد الطرق لراكبي الدراجات الهوائية، في نفس الوقت الذي تعاني جنوب تل أبيب من نقص في الخدمات الأساسية مثل النظافة، والصحة والتعليم، حيث الجرذان تنتشر بسبب مشاكل شبكة مياه الصرف الصحي، وأكوام النفايات هي مشهد تقليدي ومألوف في الشوارع، بل إن بعض المحللين في التخطيط العمراني يستنكر كيف يُمكن أن يسقط طلاب جنوب تل أبيب في امتحانات الثانوية العامة ولا يكون لهم أمل بدخول الجامعة بينما مدارس شمال تل أبيب تُعد طلابها لبناء مركبات فضائية.
الحقيقة التي يُقدمها أمنون ليفي، مقدم برنامج الوجه الحقيقي، هي أن السبب في إهمال هذه البقعة في المدن الأكثر ثراءً ليست بسبب وجود المهاجرين فيها، فالمهاجرون لم يأتوا إلى هذه الأحياء إلا عام 2007 ولكن ماذا عن الفترة التي سبقت ذلك؟ لا شك أن هناك سببًا أعمق يعود إلى قيام الدولة، حيث أن الفئة التي سكنت جنوب تل أبيب (المنطقة الأقرب إلى يافا) كانت من اليهود الضعفاء الشرقيين، ولذلك كان يُنظر إليهم نظرة دونية، وهذا باعتراف مهندس بلدية تل أبيب السابق، يسرائيل جودوفيتش؛ الذي صرّح للبرنامج: “من الصعب أن نقول بأن رئيس بلدية تل أبيب في السابق (ديزينغوف) كان مُحبًا للسفارديم (الشرقيين)، فقد كان ديزينغوف أشكنازيًا (من أوروبا) وهم كانوا سفارديم، ولن يشفع لهم شيء عنده”.
ففي البداية، سكن الأشكناز شمال تل أبيب وسكن اليهود الشرقيون في الجنوب، ولأن الأشكناز أغنى فإن شمال تل أبيب مليئة بالفنادق السياحية الفاخرة والسفارات العالمية كما المجمعات التجارية الراقية. هذه المعلومات الأساسية يمكنها أن تتيح لنا فهم ما حصل عام 2007، حيث بدأ الأفارقة بالتسلل إلى إسرائيل وبالأخص إلى المدينة الأكثر ثراء، حيث كان تجمّعهم في حديقة الاستقلال في شمال تل أبيب، وحيث يوجد فندق الهيلتون، ولكن انتشار الأفارقة أزعج أغنياء تل أبيب مما اضطر البلدية أن تتبع سياسة مألوفة جدًا في إسرائيل، فقد نقلت الأفارقة باعتبارهم فئة “ضعيفة” إلى فئة تقاربها في الضعف، وهي فئة اليهود الشرقيين ممن يسكنون جنوب تل أبيب، وهكذا أصبحت جنوب تل أبيب بمثابة “طنجرة ضغط” أو “قنبلة موقوتة” يمكن أن تنفجر في أي وقت.
ساسة بوست