هكذا أخفق الانقلابيون في تركيا وانتقلوا إلى المعتقلات

13699945_1076587479129056_1256031009307042928_n

مع إيقاف الجنود للدبابات على جسر البوسفور في إسطنبول، ومع سماع صوت الطائرات المقاتلة التي حلقت على ارتفاع منخفض فوق ثاني أكبر المدن التركية، لم يفهم سوى قليلين في تلك اللحظة ما يحدث. كانت الشكوك تحول حول تهديد إرهابي جديد، وخاصة بعد التفجير الجهادي الأخير في مطار أتاتورك بإسطنبول والذي مازال عالقاً في الأذهان.

ولكن بعد ذلك، وتحديداً قبل الحادية عشرة من مساء الجمعة، ظهرت تقارير تشير إلى إطلاق نار في العاصمة التركية أنقرة، في الوقت الذي لم يخرج فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما تجاهل المتحدث الرسمي باسم الرئاسة أكثر من طلب لتعليق مبدئي حول ما يحدث، إلى أن بدأ الجنود يملؤون شوارع المدينة، وهنا بدأت الأمور تتضح.

عصر الانقلابات لم ينته

كان يُفترض أن عصر الانقلابات العسكرية التركية قد انتهى، إذ كان الانقلاب الرابع والأخير في عام 1997. ويواجه الحكم المطلق لأردوغان وتوجهه الإسلامي انتقادات علمانية، إلا أن الكثيرين ظنوا أنه تمكن من ترويض الجيش، وأنه فاز بولاء غالبية الأتراك. ولكن مع تزايد الشكوك مساء الجمعة، بدأ الناس في طرح التساؤلات. لماذا أغلق جسر البوسفور؟ لماذا وصلت الدبابات إلى المطار؟ من يسيطر على البلاد؟، تساؤلات طرحها تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، السبت 16 يوليو/تموز 2016.

على الجانب الآخر من المدينة، كانت أسلي أيدينتاشباش تستضيف حفل عشاء يضم زملاء من الصحفيين والسياسيين في مقاطعة إتلر ذات الطابع العلماني في إسطنبول. تقول أيدينتاشباش أن أحدهم سأل قائلاً "هل هذا انقلاب؟"، حينها ضحك الجميع، لأنه قال مازحاً، إذ إن الجميع اعتقد أن ذلك الأمر أصبح ماضياً.

بعد ذلك أتت الصدمة الأولى الكبرى في تلك الليلة، بعد الحادية عشرة بوقت قصير، ظهر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم على قتاة NTV، وهي إحدى القنوات الخاصة، ليقول بأن فصيلاً من الجيش حاول الانقلاب مخالفاً اتجاه القيادات العليا للجيش، قبل أن يؤكد أن نظام أردوغان مازال يسيطر على الحكم. وقال يلدرم "الحكومة المنتخبة من قِبل الشعب مازالت على رأس السلطة. هذه الحكومة لن ترحل إلا إن أراد الشعب ذلك".

 

لم يظهر أردوغان في المشهد من البداية

 

ومع ذلك، لم تبدُ الإشارات الأولى مبشرة بالنسبة لأردوغان. لم يظهر أردوغان في المشهد من البداية. ومن الواضح أنه لم يتمكن من الوصول لإحدى الكاميرات ليدلي بتصريحه الخاص، كما لم يؤكد المتحدثون باسم الرئاسة ما إذا كان في أمان أم لا. ووسط حالة الذعر تلك، كان بعض الأتراك يهرولون نحو المحلات التجارية، وآخرون يسحبون ما أمكنهم من مال، سعياً لتخزين كميات كبيرة من الطعام والشراب لتأمين أنفسهم ضد فترات طويلة محتملة من عدم الاستقرار.

في غضون ذلك، كان مدبرو الانقلاب يواصون عملهم، تقدمت الدبابات والمركبات العسكرية في أنحاء إسطنبول وأنقرة، ليحيطوا بمطار إسطنبول في وقت متأخر من مساء الجمعة. في ذلك الوقت، ألقى مخططو الانقلاب كلمتهم، ليخرجوا بأول تصريح عند 11:30 مساءً زعموا فيه بأنهم سيطروا على الحكم لحماية النظام الديموقراطي، وذكروا أن تركيا في الوقت الحالي خاضعة لسيطرة "مجلس سلام" على حد وصفهم.

وعند الساعة 11:40 مساءً، أكد مكتب الرئيس التركي أخيراً أنه في أمان، في الوقت الذي لم يكن فيه حلفاء رئيسيون له كذلك. بعد ذلك بعشر دقائق، ظهرت أخبار تشير إلى أن رئيس أركان الجيش التركي قد اختُطِف من قِبل الانقلابيين.

بحلول الثانية عشرة، ومع بداية اليوم الجديد، بدا وكأن الحكومة المنتخبة فقدت سيطرتها على البلاد بالفعل، إذ اقتحمت القوات المقر الرئيسي لحزب أردوغان "العدالة والتنمية" في إسنطنبول. وفي أنقرة، تمكنوا من مداهمة التلفزيون الرسمي للبلاد (TRT)، وفي غضون دقائق، أمروا مذيعة نشرة الأخبار بالإعلان رسمياً عن سيطرة الجيش على البلاد رداً على ابتعاد أردوغان عن الحكم العلماني. في ذلك الوقت، عمت حالة من الصمت الواضح على القوى الدولية.

 

وقع قادة الانقلاب في سلسلة من الأخطاء

 

ومع بقاء أردوغان بعيداً عن موجات الأثير، بدا وكأن ما يحدث هو نهاية الرئيس التركي، ولكن بعد ذلك وقع قادة الانقلاب في سلسلة من الأخطاء. بدايةً، سُمِح للرئيس التركي بالهرب من مكان اختبائه، والذي كان معروفاً بالنسبة لقادة الانقلاب، بحسب ما قاله دوغو إرغيل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أنقرة. وقال "لقد قصفوا المكان، ولكن بعد مغادرته".

كنتيجة لذلك، تمكن أردوغان أخيراً من بث رسالة لمؤيديه، وإن كان ذلك قد تم عبر مكالمة هاتفية باستخدام تطبيق FaceTime مع قناة CNN Türk، والتي قال فيها أنه يدعو الشعب التركي للنزول إلى الميادين العامة والمطارات، وأنه لا قوة فوق قوة الشعب.

نجحت الدعوة التي أطلقها أردوغان في تحقيق الهدف منها، إذ تدفق مناصروه في الشوارع، وتحرك الآلاف منهم صوب مطار أتاتورك بإسطنبول. ومن خلال قنوات أخرى خاصة، واصل زملاء أردوغان التأكيد على أنهم مازالوا في الحكم ليعلوا صوتهم عبر وسائل الإعلام.

هنا، بدأت إخفاقات منفذي الانقلاب تتزايد. تقول أيدينتاشباش "لقد كان الأمر أشبه بطريقة انقلاب السبعينيات القديمة. فقد ظهر أحدهم على التلفزيون الرسمي لقراءة بيان عبر الإعلام، إلا أنه كان هناك 15 شبكة أخبارية أخرى تبث الأخبار. يبدو أن قادة الانقلاب أملوا أن يكون إعلان بيانهم في TRT كافياً، خاصة وأنهم تركوا بقية القنوات الخاصة".

لعبت الشبكات الاجتماعية دورها أيضاً. تقول أيدينتاشباش "كانت الحكومة ذكية بما يكفي لتترك تويتر يعمل. في المعتاد أثناء الأزمات يعملون على إبطائه أو السيطرة عليه، إلا أنهم تركوه هذه المرة".

أشارت أيدينتاشباش أيضاً إلى دور المساجد، فقالت "ساهمت المساجد بشكلٍ كبير في حشد أنصار حزب العدالة والتنمية من خلال الأذان في ذلك الوقت".

كانت المعركة لم تنته بعد برغم كل ذلك. بحلول الواحدة صباحاً، فتحت دبابات الانقلابيين النار خارج مبنى البرلمان في أنقرة، إذ ظهرت بعض الصور فيما بعد التي تظهر جثثاً مشوهة ضربتها قذائف الدبابات. في الجو، دارت معركة بين الفصائل المتنافسة في القوات الجوية، كما سُمِع دوي انفجارات في أنحاء المدينة وفي مقر البرلمان. تمكن أردوغان من مغادرة الساحل التركي في طائرته الخاصة، والتي حلقت لفترة طويلة في إشارة إلى أنه لم يكن متأكداً من أن عملية الهبوط ستكون آمنة في ذلك الوقت.

لكن في غضون ساعة واحدة، تحولت الأمور بشكل حاسم لصالح أردوغان، إذ أعلن عددٌ كبير من القادة العسكريين البارزين دعمهم، ثم خرج الرئيس الأميركي باراك أوباما –والذي ظل صامتاً طوال الجزء الأول من الليلة- بتصريح قوي لصالح الرئيس التركي. وبالعودة إلى تركيا، رفضت جميع أحزاب المعارضة العلمانية الانقلاب على الحكم، وبحسب ما ذكره أحد أعضاء المعارضة في البرلمان، فقد كانت تلك حالة نادرة من الوحدة التي أفقدت الانقلابيين السيطرة.

يقول هيسيار أوزسوي، عضو البرلمان التركي عن حزب الشعوب الديموقراطي الموالي للأكراد "كان على هؤلاء الذين دبروا محاولة الانقلاب إعادة التفكير في ما فعلوه. نعم نحن لدينا مشكلات في تركيا، ولكن في نفس الوقت التدخل العسكري لن يكون الحل".

 

وجه ضربة نفسية هائلة لقادة الانقلاب

 

في إسطنبول، تمكن أنصار أردوغان من السيطرة على مطار أتاتورك، ليمهدوا الطريق لهبوط طائرته عند 3:20 صباحاً، حيث كان في انتظاره حشود كبرى من أنصاره، وهو ما وجه ضربة نفسية هائلة لقادة الانقلاب.

تدفق المزيد من الناس إلى الشوارع دعماً لأردوغان، وساهم البعض في إيقاف المركبات العسكرية ومساعدة الشرطة في القبض على جنود الانقلاب. كان هذا الأمر جزءاً أساسياً أيضاً من تفوق أردوغان: ولاء الشرطة له، إذ كانت قد دُعِمت في عهده كوسيلة جزئية لمعادلة نفوذ الجيش.

وعند محاولة الانقلابيين في وقت لاحق السيطرة على مبنى CNN Türk، ساعدت الشرطة المدنيين في التصدي للمحاولة. وفي ميدان تقسيم بإسطنبول، ألقت الشرطة القبض على 40 جندياً كانوا قد سيطروا على الميدان قبلها. كذلك قامت الشرطة بمهاجمة الطائرات التابعة للانقلابيين والتي حلقت على ارتفاع منخفض في سماء المنطقة ليهز صوتها نوافذ الأحياء المحيطة.

بحلول الرابعة صباحاً، ألقى أردوغان خطاباً للشعب، وهو ما كان بمثابة اللحظة الفارقة في تلك الليلة، إذ قال فيه إن تركيا انتخبت حكومتها ورئيسها ديموقراطياً، وأنهم على رأس السلطة وسيمارسون عملهم حتى النهاية، وأنهم لن يتخلوا عن البلاد لهؤلاء الانقلابيين.
حمل وقت الفجر أخباراً جيدة بالنسبة للرئيس التركي، إذ انتشرت عشرات الصور التي تظهر استسلام الانقلابيين والقبض عليهم من قبل موالين لأردوغان. وعند 6:40 صباحاً، كان الجنود الذين أغلقوا جسر البوسفور قد استسلموا، كما سيطرت الشرطة على الدبابات، وسيطر بعض المناهضين للانقلاب على المركبات العسكرية والذين كانوا يحتفلون بانتصارهم، ليتحول الجسر من إشارة إلى بداية الانقلاب إلى دليل زواله.

 

لقد انتهى الانقلاب

 

يقول أحد عمال البريد، ويدعى يلدرم دوندار، والذي كان من بين المتظاهرين على الجسر "لقد انتهى الانقلاب. هذه هي النهاية".

في أنقرة، واصل المتظاهرون وقوفهم أمام مقر القيادة العسكرية، بعدما صدر بيانٌ يقول بأنهم واصلوا القتال، إلا أن السيطرة المباشرة كانت لحكومة أردوغان. وقبل الثامنة والنصف صباحاً، أُطلِق سراح رئيس أركان الجيش الذي اختُطِف مع بداية الانقلاب، واستعادة الحكومة السيطرة في وقت لاحق على مقر القيادة العسكرية، ومبنى البرلمان المُدمّر حالياً.

بعد منتصف النهار بوقتٍ قصير، أعلن رئيس الوزراء بن علي يلدرم عن اعتقال 2839 من الانقلابيين ومقتل 104 منهم، وأكد أن الوضع في ذلك الوقت تحت سيطرة الحكومة بالكامل.

ولكن الآن مع استعادة أردوغان للسلطة، يظل السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو كيف سيتعامل أردوغان بعد ذلك. طوال سنوات، كان أردوغان يتوق لتطبيق النظام الرئاسي بدلاً من البرلماني في الحكم، والآن لديهم الرصيد السياسي الذي يسمح له بتنفيذ ذلك بحسب إرجيل، والذي قال "طموح أردوغان هو تأسيس حكومة الفرد الواحد والدمج بين السلطة التشريعية والتنفيذية". وأضاف "تنفيذ ذلك أسهل بكثير حالياً".