رام الله الإخباري
موقع رام الله الاخباري :
هل ما زلتِ تحبينه؟ يسألها الناس، فتجيب: لو كنتم تعرفون قصتنا، خوفنا وسهرنا وشدة ارتباطنا ببعضنا، لم تجرأتم على طرح هذا السؤال.منذ خطف الرصاص حياة الشاب عبد الرحمن البرغوثي، من قرية عابود إلى الشمال من رام الله، في الرابع من كانون الأول من العام الماضي، وخطيبته إسراء البرغوثي من قرية دير غسانة المجاورة، تقول لنفسها: لم يمت، سافر وسيعود.
تكتب له بشكل شبه يومي، وكأنه سيقرأ، وسيشعر، وسيجيب يومًا، وتقول في احدى رسائلها: اشتقتك جدًا، أنت تعرف هذا، واشتقت لي، وتحس بشوقي لك، لا أفهم كيف افترقنا، أشعر بضياع من بعدك، أريد العودة للنظر في عينيك، والبكاء والفرح معك، وأن يبدأ صباحي بك، اشتقت لأوقات خناقنا على العودة إلى البيت، والتي سرعان ما كانت تنتهي بمصالحة جميلة.
في رسالة أخرى تكتب إسراء: متعبة اللحظات التي يأخذني فيها الحنين إليك. انتهت السعادة بغيابك. اشتقت صوتك الذي خطفه الرصاص. في خانة الحالة الاجتماعية، سأشطب عزباء، وأضيف: خطيبة شهيد.
تتذكره في أول يوم من السنة الجديدة، في أيام الجمعة، في "عيد الحب"، حيث تكتب له: وضعتُ على قبرك وردة. وتتابع كتابة الكلمات إليه: أكتب لك يا من تحت التراب هل تسمعني! أناديك بحنيني القاتل، أناديك ولا تجيب، أخذك القدر، سرقك الموت من بيننا، بيتك تحت التراب، أخشى أن أزورك، لأنني أخاف العتمة، ليتك تسمع نبضات قلبي، معلقة بك، كنت اللجوء الوحيد لجميع حالاتي، تركتني لحياة قاسية، تعال وخذني لبيتك، أنت الامل. أرسل إليك آيات الله تحميك.
عبد الرحمن استشهد وصورة حسابه الشخصية على "فيسبوك"، وجهه مع وجه إسراء، بينما صورة غلافه تبرز يديهما مع خاتمي الخطبة.تقول اسراء: أكتب من حرقة قلبي، أنا كتومة بطبعي، ولا أحب الفضفضة للناس، أذهب إلى صفحة عبد الرحمن على الفيسبوك، وأكتب على حائطها ما شئت، أكتب له وحده، حتى لو قرأ الناس. هناك فقط أشعر أنني أناديه وأحدثه، وأنني قربه.
حين استشهد شعرت أن الدنيا بأكملها تحالفت ضدي، أقنع نفسي أنه موجود، مسافر لفترة وسيعود، في الليل يزداد شوقي إليه، وأبكيه أكثر، فما فقدته ليس فقط إنسانا في هذا العالم، لقد فقدت حياتي. أبعث له مئات الرسائل على "واتساب" و"فايبر"، وأنتظر إشعارًا بأنه قرأ، وسيرد قريبًا، أتناول هاتفي وأبدأ بإجراء مكالمة على رقمه، ولا أحد يجيب، حالة تشبه الجنون الرسمي.
ولأن الرصاص لا يُقدر جيدًا المسافة بيننا وبين من نحب، يصيب أجسادًا وأرواحًا أخرى، لم تتعرض لإطلاق النار بشكل مباشر، بل أُصيب به من اعتادته تلك الأجساد والأرواح، وصارا جزءًا منها.
تمضي إسراء في قصتها مع خطيبها الشهيد عبد الرحمن، وتقرر مكان زفافهما، لكنها لا تعرف الزمان، تختم رسائلها بجملة: "عرسنا في الجنة".يعمل الاحتلال منذ يومه الأول، على قتل الإنسان الفلسطيني من داخله، فيقتل طفلًا، ليترك في عائلة بأكملها حسرة أبدية عليه، ويقتل شابًا، كان يحلم بوظيفة وزوجة وبيت هادئ، ويقتل رب عائلة، مُخلفًا بجريمته أرملة وأطفالا تتقاذهم الحياة بين مر وحلو
ويخطف رصاصه أمًا، تصبح ابنتها الطفلة في لحظة واحدة أمًا بديلة، يزج وراء قضبانه أطفالًا لم يروا بعد من الحياة شيئا، وصاروا بداخل سجونهم شبانًا، ورجالًا تزوج أولادهم الذين كبروا، وأنجبوا أطفالًا، محوّلا الأسير إلى جد. في الأسر قصص لا تنتهي من انتظار أم لولدها، وزوجة لزوجها، وخطيبة تأجل موعد زفافها، وبين من انتظروا أحبة عاد بعضهم، وبعضهم استشهد، وآخرون أخذتهم السجون والغربة والمنافي، يستمر الاحتلال بمحاربة أحلام الفلسطيني، الذي ما زال يرد عليه، ويصحو صباحًا، يقول بداخله: حيَّ على الحياة.
وكالة وفا