لم يكن الأمر بحاجة إلى الكثير من التفكير العميق، لنعرف أن الأنظار داخل حركة حماس وخارجها بدأت تتجه نحو القيادي البارز خليل الحية، لتولي منصب رئاسة الحركة، لا سيما وأنه من أبرز الشخصيات المتبقية في الصف الأول، في ظل وضع صعب جدا تعيشه الحركة، بعد تصفية أكبر عدد من أبرز قادة الحركة، والتي كان آخرهم محمد السنوار، الأخ الأصغر للزعيم السابق للحركة يحيى السنوار، الأمر الذي يضعه في موقع حساس، قد يجعله مفتاحا لمستقبل القطاع في المرحلة المقبلة، إذا أحسن التصرف والتفكير وهو المعروف بأنه المخضرم في العمل السياسي والتنظيمي.
وطبعا يأتي ذلك، امتدادا لسيناريو استكمال نقل مركز ثقل الحركة لقطاع غزة، والذي بدأ بعد اختيار إسماعيل هنية الذي اغتالته إسرائيل في ايران قبل أشهر، بعد احتكار الخارج لرئاسة المكتب السياسي لأكثر من عقدين، بعدما تكرس هذا الاحتكار بعد استشهاد الأب الروحي للحركة الشيخ أحمد ياسين وبعده الدكتور الرنتيسي ليتفرد الخارج بكل شيء، وهذا هو التوجه الذي تسير فيه الحركة في آخر سنوات، ويبدو أنها لن تفرط فيه ولن تسمح بنقل ثقلها مرة أخرى للخارج.
من يقرأ التاريخ يعرف أن له مسارات محددة بغض النظر عن رجال المرحلة، ولكن الحقيقة التي يمكن رؤيتها بوضوح أن هناك بصمات حادة ودورا هائلا لشخصية الحية، تمكنت من تغيير مسار الحركة، خصوصا بعد اندلاع حرب الإبادة الأخيرة، واعتماد إسرائيل بشكل واضح على استراتيجية "قطع الرأس" ضد البنية القيادية لحماس، والتي اسفرت عن اغتيال شخصيات ذات ثقل أمني وسياسي كبير، مثل مروان عيسى، ومحمد الضيف والسنوارين وأغلب المكتب السياسي للحركة في قطاع غزة، ما أسفر عن إضعاف قدرة الحركة على التنسيق المركزي.
ويضع الفراغ القيادي الذي خلفته الحرب الأخيرة حماس أمام خيارين، فإما إعادة تشكيل الهرم القيادي بسرعة للحفاظ على تماسُك الحركة، أو الدخول في مرحلة من التخبط قد تقود إلى انقسامات داخلية أو حتى تقليص نفوذها في غزة.
يبدو أن خليل الحية، الذي يتميز بـ"الوجه المرن" والذي يشق طريقه نحو الزعامة بسرعة كبيرة، هو الأكثر حنكة في إدارة السياسة والأكثر ذكاء في الحفاظ على حركته التي بدأ الكفاح فيها مبكرا من الكثيرين الذين اعتقدوا أن مصلحة الحركة تكمن في حكم قطاع غزة ولا شيء غير غزة والاستمرار بهذا الوضع الى ما لا نهاية بغض النظر عن تداعيات هذا الحكم وعن كم الأزمات الذي يستولده، فالحية الذي لعب دورا في عدة مفاوضات سابقة، سواء مع الوساطات الإقليمية أو في التفاهمات مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، ويمتلك خبرة طويلة في العمل التنظيمي داخل الحركة، يتميز بقدرته الواسعة على المناورة السياسية، وقدرته على التفاعل مع الضغوط الدولية والإقليمية، بخلاف بعض القادة العسكريين الأكثر تشددا.
هذا الأمر وغيره الكثير من مميزات الرجل، قد يجعل الحية مرشحا لقيادة مرحلة انتقالية تتطلب لغة سياسية أكثر من نهج عسكري مباشر، خاصة إذا ما تم الدفع نحو تسوية أو تهدئة طويلة الأمد، حتى أصبح مصير القطاع يتوقف الى حد بعيد على المسار الذي ستتبناه القيادة المتبقية لحماس.
وكما يقولون، خطوة للوراء من أجل خطوات للأمام أفضل من هذا التمترس الساذج، وتلك سياسة حكيمة يبدو لي أن الرجل سيتخذها خصوصا وأنها خطوة لإخراج حركته وإخراج الغزيين من عنق الزجاجة التي أدخلهم فيه بعض القادة المتشددين قبل عامين تقريبا، فلا المصلحة الوطنية تحققت ولا المصلحة الحزبية لحركته تقدمت، فإذا استطاع الحية، أو غيره من القادة، الإمساك بزمام الأمور وإقناع القواعد التنظيمية بضرورة الدخول في مرحلة تهدئة واستثمار دعم إقليمي ودولي لإعادة الإعمار، فقد يشهد القطاع انفراجة نسبية، بعيدا عن القتل والدمار والحصار والتجويع الكبير الذي لحق بشعبنا بغزة وبالبنية التحتية، وغياب أي أفق سياسي واضح.
ولا استبعد أن يلعب الوسطاء مثل مصر وقطر وتركيا، إلى جانب وسطاء دوليين مثل الولايات المتحدة الأمريكية، دورا محوريا في الضغط باتجاه ترتيب المرحلة المقبلة، وإذا كانت هذه الأطراف ترى في الحية شريكا ممكنا لمرحلة إعادة ترتيب البيت الداخلي، فقد تُفتح أمامه قنوات دعم سياسي ومالي مشروط بالتهدئة.
في كل الأحوال، يبقى خليل الحية أحد الرجال "الحكماء" في حماس الذين يمكنهم التأثير بشكل واضح وفعلي في مجريات الأمور، فإذا نجح في ذلك، فستتحول شخصيته إلى رمز للانتقال إما نحو حل سياسي ممكن، بعيدا عن العنف الذي لم يعد يجدي ولم يعد يصب في مصلحة الوطن والتنظيم على حد سواء في ظل الموجة العاصفة، التي تتطلب الانحناء بعض الشيء حتى تمر خصوصا وإذا كانت العاصفة قوية جدا مثلما يجري الان.
اذا، حماس بحاجة الى قرار حكيم غاب عنها طوال 19 شهرا من الحرب والقتل والدمار، الى الدرجة التي لم تعد تعرف حتى مصلحتها، فهل تبدأ تجيد القراءة والاستماع من جديد الى رجل كل التوقعات أنه سيرسم خارطة طريق جديدة للحركة؟ هذا ما نتمناه.