"الوقت ينفذ"… ولكن إلى أين؟

في الوقت الذي عادت فيه الأمور في قطاع غزة لنقطة صفرها الأولى في مفاوضات عقيمة أعادت طبخ الحصى لأطفالنا الجوعى في غزة، في أطول وأقسى مجاعة شهدها التاريخ الحديث، حتى بات العقل البشري لا يستوعب هذه الحقبة ويعيش وجع طفلة تتلوى باحثة عن كسرة خبز تهرب بها من تحت الطائرات والمدافع، تخرج علينا كتائب القسام ذراع حماس العسكري، بين الفينة والأخرى بتسجيلات مصورة للأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم، تحت شعار ساذج "الوقت ينفذ"، في رسائل بصرية تهدف بالدرجة الأولى لتحريك الرأي العام الإسرائيلي، والضغط على حكومة نتنياهو لإنهاء الحرب عبر صفقة تبادل شاملة. ولكن، هل لا تزال لهذه التسجيلات جدوى حقيقية على الأرض؟

أي عاقل يتابع الأحداث جيدا وبشكل منطقي، يدرك بشكل لا شك فيه، أن الواقع المرير يشي بعكس ما تأمل به حماس، وأن نتنياهو وحكومته باتوا لا يولون ملف الاسرى أي أهمية، فمنذ أكثر من خمسة عشر شهراً، والمظاهرات داخل إسرائيل لم تتوقف. عشرات الآلاف من الإسرائيليين يخرجون أسبوعياً إلى الشوارع مطالبين بإقالة الحكومة وإعادة الأسرى، إلا أن هذه الحراكات لم تنجح في إحداث أي تغيير جوهري في سياسات نتنياهو. الرجل يبدو ماضياً في خيار الحرب حتى النهاية، معتمداً على حسابات داخلية ودولية، غير آبه لثمن الأسرى أو لصرخات ذويهم.

إذن فهذه الورقة أصبحت محرقة مشتعلة بدماء شعبنا، في الوقت الذي نعجز فيه عن ايلام العدو والضغط عليه لوقف العدوان، وبات الحديث مؤخرا عن الوصول الى "هدنة إنسانية" وليس وقفا للحرب، خصوصا وأن الذي يخسر في كل دقيقة ويدفع الدماء والأشلاء والدمار والتجويع وغيره هو شعبنا من لحمه الحي.. أعتقد أن أي عاقل يعرف أن المنطق هو ما تحدث به الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل أيام في اجتماع المركزي، ولا يحتاج الأمر الى محلل سياسي أو عسكري للوصول الى الإجابة الصحيحة.

من المنطق، أن يتدنى سقف مطالب حركة حماس، لأجل أن تمر صفقة تبادل مرحلية، وتخفيف معاناة شعبها في غزة، الذي مازالت الصواريخ تنهال فوق رؤوسهم في كل دقيقة تمر دون التوصل الى اتفاق ينهي هذه المعاناة، أجزم لقادة حماس أن سكان غزة لن يقولوا أن المقاومة قد انهزمت، ولن تلوم حماس على أي تنازل تقدمه في الوقت الحالي، لأن أهل قطاع غزة يعانون من التجويع غير المسبوق، مستعدون الآن لاطلاق سراح جميع هؤلاء المحتجزين مقابل كيس طحين يطعمون به أبنائهم ووقف مسلسل الموت اليومي.

وفي مشهد موازٍ، خرج الرئيس الفلسطيني محمود عباس مؤخراً بخطاب أشار فيه صراحة إلى تسليم الأسرى بما يؤدي إلى وقف فوري لإطلاق النار. وفي هذا مبادرة تتسم بالعقلانية في ظل الانسداد الكامل الذي يعيشه الملف، ولكنها تصطدم أيضاً بواقع الانقسام الفلسطيني وتعنت الأطراف الإسرائيلية.

أعلم أنه ليس هناك وقت محدد لعمل مراجعات عظمى مع حماس، ولكن المنطقي هو أننا بحاجة الى عمل تغذية راجعة لكل سلوكنا السياسي والعسكري، فأين كنا وماذا حققنا؟ وهل يجب النظر في برامجنا وسلوكنا؟

إن الحل الأمثل اليوم، وقد بات واضحاً، يكمن في إخراج ملف الأسرى من دائرة الاستثمار السياسي المباشر. أن تقوم حماس، بموجب تفاهمات تضمن الكرامة الوطنية، بتسليم الأسرى إلى جهة عربية محايدة، مثل جامعة الدول العربية أو حتى لجنة الصليب الأحمر، على أن يترافق ذلك مع اتفاق متكامل يشمل وقف العدوان وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

أي تأخير إضافي لا يخدم سوى آلة الحرب الإسرائيلية التي تستنزف أرواح الفلسطينيين وتزيد من معاناة المدنيين في غزة. لقد حان الوقت لتغليب صوت العقل والحفاظ على ما تبقى من أوراق قوة قبل أن تحترق جميعها تحت نار الحرب الطويلة.

اتفق مع فيديوهات حماس التي تحمل شعار "الوقت ينفذ"، ولكن ليس فقط للأسرى الاسرائيليين، إنما للقضية الفلسطينية برمتها إذا استمر الجمود والرهان الخاسر على تحريك مشاعر حكومة غارقة في التطرف، إن الوقت ينفذ ياحماس وطاقة شعبنا تنفذ، الصمود والتحدي وكل الشعارات الرنانة التي صدعتم رؤوسنا بها قد نفذت، حتى كيس الطحين وكسرة الخبز قد نفذت ياحماس..