نشرت صحيفة “واشنطن بوست” افتتاحية قالت فيها إن “إهانة بوتين التي تسبب بها زعيم مرتزقة فاغنر، يفغيني بريغوجين تعني مخاطر جديدة على روسيا والعالم”.
وقالت إن العصيان القصير والقوي الذي نفذه زعيم المرتزقة بريغوجين، ومقاتلوه في روسيا يوم السبت، يمثل نقطة تحول في حكم الرئيس فلاديمير بوتين الذي مضى عليه 23 عاما. فقبل التمرد، بدا بوتين منيعا ويقود نظاما يدور حوله نفسه، ويمنح فيه العطايا والثروة لعدد من القبائل مقابل الولاء.
وفي ومضة عين، أُهين وتصدع نظامه. والتداعيات لهذا مثيرة لقلق عظيم على روسيا وأوكرانيا والعالم.
وتذكر الصحيفة أن بريغوجين هو من صناعة الكرملين، فهو من الأوليغارش الذي أغدقت الدولة الثروة عليه، وقامت جماعته فاغنر بمهام خطيرة في أفريقيا، وفي معركة باخموت الأوكرانية. وطالما انتقد بريغوجين، وزيرَ الدفاع سيرغي شويغو بسبب عدم توفير الإمدادات والذخيرة له، وفي الأسبوع الماضي، انتقد أهداف حرب بوتين واعتبرها غير صحيحة.
وسيطر مقاتلو فاغنر يوم السبت على مدينة رستوف في جنوب روسيا والتي تتمركز فيها القيادة العسكرية التي تدير الحرب في أوكرانيا، ثم أمر بريغوجين مقاتليه بالسير نحو موسكو وإسقاط طائرة عسكرية ومروحية كانت تقل جنودا، وهي أمور لم تكن لتحدث أبدا في عهد بوتين.
وبدا بوتين فزعا في خطاب السبت، عندما اتهم بريغوجين بالخيانة و”الطعنة بالظهر” وتعهد بالانتقام. ولم يحدث أي شيء، حيث خرج بريغوجين من حبل المشنقة، ومنح جنوده حصانة من المحاكمة، وبدا الأمر مثل روسيا في التسعينات من القرن الماضي عندما لم تكن قادرة على الدفاع عن نفسها ضد اللصوص، دولة ضعيفة فتحت المجال أمام صعود بوتين كرجل قوي.
وبنيت أسطورة بوتين على أنه رجل لا ينسى شيئا، جرذ محشور في الزاوية قادر على الضرب مرة ثانية وبقسوة، ضابط سابق في كي جي بي، ويحلم بإعادة مجد إمبراطورية، ولم يكن نفس الرجل يوم السبت. ولكن ماذا سيفعل الآن؟
ربما يوجّه بوتين روسيا نحو مزيد من الحكم الشمولي، لكي يظهر القوة وملاحقة نقاده وضربهم بقوة لا مثيل لها. فبعد حصار المدرسة في بيسلان عام 2004، اقترح بوتين قانونا لإلغاء انتخاب حكام المناطق وتعيينهم بدلا من ذلك. ولكن لماذا حرف بوتين عينيه عن العصاة المسلحين، وسيواجه أسئلة محرجة لو قام بعملية قمع قاسية. فانتقاد الجيش يعد جريمة في روسيا، ويواجه ناقد بوتين، أليكسي نافالني، محاكمة جديدة بتهم التطرف، وقد يحكم عليه بالسجن 30 عاما، فكيف سيبرر بوتين هذه الأحكام التعسفية بعدما ترك مرتكبي الثورة المسلحة يمشون أحرارا؟
قبل التمرد، كان بوتين يدير نظام السلطة النخبوي القائم على الولاء الشخصي من خلال التأكد من تبعية كل عناصر القبيلة- الأوليغارش، الخدمات الأمنية، التكنوقراط والجيش له. وقضى بوتين على الصحافة المستقلة وسيطر على السياسة، ولكن هذا النظام قد اهتز الآن، ويشير العصيان إلى إمكانية قيام آخرين بإظهار استقلالية عن النظام، بل وتحدي بوتين مباشرة.
وكتب سام غرين، أستاذ الدراسات الروسية في كينغز كوليج بجامعة لندن، مقالا في “يوروبيان بوليسي أنالسيس” أن بريغوجين أطلق العنان للسباق بين النخبة الروسية، وقال: “لا يستطيع بوتين مواصلة اللعبة التي لعبها سابقا.. مع التنافس الذي ضرب قلب بنية السلطة الروسية، فلن يكون لدى بوتين المرونة والمناورة والانفصال الذي علّم صعوده وأبقى على النخبة شبعانة”.
وقبل تمرد بريغوجين، بدا بوتين مصمما على طريقه في أوكرانيا، وأظهر ميلا نحو النزاعات المجمدة التي تطحن معارضين. وهذا لأن بوتين كان يفكر أن الوقت في صالحه، إلا أن بريغوجين قد يغير هذا. وعانت روسيا من الضعف بسبب الحرب، حيث خسرت حوالي 225 ألف جندي، وجيشها في تراجع، وأضعفت العقوبات الاقتصاد.
كما أن منظور مساءلة بريغوجين أهداف حرب بوتين، قد يترك هزات وسط الرأي العام الروسي. وحتى هذا الوقت، أظهرت استطلاعات الرأي أن الروس مستعدون لنزاع طويل، ولم تخرج بعد الاحتجاجات للشوارع حتى مع امتلاء المقابر بالموتى. وربما قاد العصيان إلى دفع السكان للتفكير من جديد وتغيير مزاجهم والتخلي عن السلمية والسلبية. وربما تبخرت النظرة حول بوتين سريعا كما صعد إلى السلطة في 1999، حيث استخدم كلام الشوارع بأنه يريد سحق المتمردين الشيشان وإخراجهم. وكان مثيرا للدهشة رؤية الجماهير وهي تصفق لمقاتلي فاغنر وهم يغادرون روستوف.
وأعلن ألكسندر لوكاشينكو، الذي أدار المفاوضات بين الكرملين وفاغنر، أن مقاتليها سينتقلون الآن إلى بيلاروسيا. وسرق لوكاشينكو الانتخابات في عام 2020، وحرك بلاده بشكل ثابت نحو فلك موسكو، حتى نشر أسلحة نووية روسية على أراضيه. وسيستقبل قوات مرتزقة ارتكبت جرائم حرب، وهي نكسة جديدة لمن يرغبون بالتحول الديمقراطي والإطاحة بلوكاشينكو.
والأهم من كل هذا، فإن على الولايات المتحدة وحلفائها الثبات في دعم أوكرانيا التي تريد أن تكون دولة ديمقراطية، وجزءا من أوروبا، وتقوية دفاع القارة بشكل عام.
ويتساءل الكاتب: “ما هو شكل روسيا الذي سيظهر على حدود أوكرانيا، الأسبوع أو العام المقبل؟”، مجيبا: “من الصعب التكهن به الآن”.
وبات مسار روسيا أقل يقينا كما في الأعوام الماضية، ومن الواضح أن بوتين تعرض لهزة في عرشه الأبدي، وهذا بداية فصل جديد بمخاطر جديدة، وعلى الغرب التحضير كلما زادت المخاطر من عدم الاستقرار والغموض القادم من روسيا.