فورَ إطلاق صواريخَ تحذيريةٍ على أحد الأبراج في قطاع غزة؛ تمهيداً لقصفه بالكامل بصواريخ الطائرات الإسرائيلية المدمِّرة، بالكاد يخرج قاطنوها بملابسهم التي يرتدونها، يحاولون لملمةَ بعضهم البعض، ويبقى الجميعُ من بعيدٍ يراقب المشهد، تصعد إلى السماء كلماتٌ مع كلّ صاروخ "الله أكبر، حسبي الله ونعم الوكيل، وهناك مَنْ ينطق الشهادة".
هي دقائق لا تتعدّى أصابعَ كفِّ اليد الواحدة، نكون متأهبين لرؤية الدمار، نرتب الكلمات والمفردات، حتى لا نتردد ونتلعثم، نبدأ باسترجاع الذكريات والابتسامات التي جمعتنا بمَنْ نحب في هذه الأبراج، نضع كل الاحتمالات بأنه سيكون تحذيراً خاطئاً، لن يتمَّ قصفُ البرج، جميعها توقعاتٌ خاطئة، ولكن نضعها علَّ الذكرياتِ تبقى كما هي مرتبةً في خزائنِ مخيلتنا، لا نضعها من باب أن الاحتلال الإسرائيلي قد يخطئ وأنه رحيمٌ، بل لنواسيَ أنفسنا، ونبقي ما يساعدنا بعد ذلك على تحمل أعباء الحرب بعد أن تضع أوزارها.

برج "الجلاءُ" وسقوطُ الكِبرياء
حين شاهدتُ سقوط برج الجلاء، تملَّكني شعورُ الدهشة، أدهشني حينها سقوطَ الكبرياء لهذا البرج، لا أعرف لماذا كنت حريصاً على ألّا ترمش لي عينٌ عن مشاهدة البرج فورَ سماعي خبرَ التهديد بقصفه، هي لحظاتٌ عبر البث المباشر امتزجت فيها الذكريات وانساقت مع تموج انهيار البرج مع مَنْ لهم مواقف معنا في هذا البرج، كانت غصّات القلب تتوارى خلفها بقسوة.
في العادةِ لم أشعرْ أن الحجارة والبناياتِ تحدثني، وعند إمعان النظر لصور سقوط البرج، وجدت نفسي متورطاً في مواقفَ ترصد بصدقٍ غيرِ مسبوق تفاصيلَ الأحداث والأشخاص الذين صمدوا تحت الصواريخ، وأمدُّونا ببقايا أملٍ في حياةٍ أكثر إشراقاً.
كلما دقّقت في تفاصيل السقوط، أُحدِّثُ الحجارة دون أن تسمعني.. أنتِ منّا ونحن فيكِ، أخاطبها وأصرخ عليها أيتُها المدهشة والعنيدة، رغم قلة الذكريات التي جمعتني بمَنْ أحبُّ فيكِ إلّا أنّني وقفت أمام لوحةِ سقوطك بحزنٍ عميق، كنت أرى في بنائك فارساً يقاتل بسيف صموده وشموخه معاركَ خارجة عن التحمُّل، حتى جاءتكِ الطعنةُ من الخلف، أراقبك بحسرة، تجثو على ركبتيك بعزّةٍ، تحاول التماسكَ والنهوض، ولكن في النهاية هي طعنةُ غَدْر، نعم.. رسمت عند سقوطك تجاعيدَ رجلٍ عجوزٍ عزَّ عليه السقوط، بكيت وأبكيتنا، جمعت نفسك ونَعَتكَ حجارتُك قبل أقلامنا.
سيبقى سقوطك شاهداً على شموخك وعظمتك، نكررها بألم، سنبقى نتذكر انحناءَك حين عصفت بحجارتك ريحُ الموت العاتية، سنعيد الذكريات والجمال والحب والعمل والزملاء كلما تبادر لنا بَدْءُ معادِ الرحيل بخطواته الموجعة نحوك، ستبقى عزيزاً علينا نلملم تفاصيلك ونخبِّئُها في ثنايا أرواحنا المنهكة بالذكريات.

مِنْ وسْطِ الموتِ تنبعثُ الحياةُ
وسْطَ ركامِ الحرب، تجتمع عائلةٌ للاحتفال بعيد ميلاد ابنهم على أنقاض بيتهم المدمّرِ بالصواريخ الإسرائيلية، بشاشةٌ في الوجوه، براءةٌ تعكس روعة الأرواح، أشياءٌ يحاولون رسمها دون تردّد، فربما صاروخٌ غادرٌ سيفقدهم إياها في لحظةٍ ما، يحاولون غرسَ شيءٍ جميل في النفس، يجتمعون كأوراق شجرةٍ واحدة، يتحدّون رياحَ الحرب في اتجاهاتٍ متغايرةٍ بعيداً عن أصوات الانفجارات ولهيب الصواريخ.
يتجمّعون في لحظةٍ حميميةٍ، يغنون لطفلهم بترانيم أعياد الميلاد، يُطفِئونَ لهيبَ الشموع ويُشعِلون فتيلَ الأمل لغدٍ مشرِق رغمَ عتمةِ الركام، يعلنون ميلادَ عامٍ جديدٍ في وقتٍ ربما يُغلِقُ دفترَ أعمارهم.
حفلُ أملٍ من وسط الألم، ينشدون حبَّ الحياة، يقبضون على جمر الوطن، لا يتنازلون كنجوم حيثُ لا يغادرون فلكاً إلّا وهم بنور العزِّ قد سطعوا على ما هدّمه العدوان وأناروا على ما أعتموه، في عيونهم تتجلّى التناقضات وتختلط فيها ملامح الحياة بالموت، أقسموا ألّا ينهيها مشهدُ الدمار ويسدل الستار على عزيمتهم، تجمّعوا على أنقاض منزلهم كالطيور، في السلم منارة للحياة، وفي الحرب نسورٌ شامخة تأبى السقوط.
مشهدٌ مغمّسٌ بوجع الدنيا، تتجلّى فيه رياح الموت العاتية، وركام الحجارة المهدّمة، وسوادُ الصواريخ القاتلة، وفي وسطها لوحةٌ فنيةٌ لعيد ميلادٍ ترفع شعارَ "حُبِّ الحياة ما استطعنا إليه سبيلاً".
هنا.. على كتفِ ركام البيت الذي غَفَت عليه أحلامُ الأطفال يهيمن صمتٌ موجِعٌ وزفيرٌ قاتلٌ تزاحِمُه لحظاتُ الفرح وضحكاتُ الأمل، يحاولون إعلاء فكرة "باقون.. صامدون.. عبثاً تحاول لا فناء لثائر" فكرةٌ لا يجوز أن تموت، خاصة عندما تكون من غزةَ التي تحمل الوطن على خاصرتها رغم طعنات الغدر ونَزْفِ القهر.
أربعةُ حروبٍ وحصارٌ في خمسةَ عشرَ عاماً
عشنا التجربةَ كاملةً، ليست المرةَ الأولى التي نعيشُ فيها هذه التجربة، تعلّمنا منها الكثير، تعلّمنا أنَّ النتائجَ من الممكن أنْ تتأخرَ عن الفعل مباشرة؛ لأنَّ استمرارية الحياة في كلِّ مرّة تُجابِهُ الموتَ، تنتصرُ عليه، فضَخُّ الدم في شرايينِ غزةَ لم ولن ينتهي.
نعم.. نخرجُ في غزةَ بعد كلِّ عدوانٍ إسرائيليّ بخسائر، ولكنَّ - صِدقاً - العائدَ أعمقُ بكثير، نتدبّرُ الأمورَ والأحداث، نجدِّدُ اليقينَ بالله، نبتسمُ لأنّنا نُيقِنُ أنّ الهدفَ أسمى وهو "فلسطين"، والأحداثَ التي نمُرُّ بها ما هي إلّا أقدارُ اللهِ التي لا تخطئ أحداً.
بعد كلِّ جولةٍ، يقف العالمُ مذهولاً، والاحتلالُ الإسرائيليّ في دهشةٍ من صمودِ هذه البقعةِ صغيرةِ المساحةِ كبيرةِ المكانة، نقهرُهُم بتجاوزِ الدمار والمعاناة التي تسبّبوا بها، نبني ما قصفوه من بيوت، ونُرمِّمُ ما تبقَّى من أحلامِنا، ونخرجُ أشدَّ صلابة.
أربعُ جولاتٍ.. كلُّ واحدةٍ أشدُّ قسوةً عن سابقتها، يخرجون من كلِّ جولةٍ بنشوةِ المنتصِر، يعتقدون أنهم انتصروا على عزيمتنا، وأنّ حياتَنا ستتوقف، ثمّ تخرجُ لهم قوتُنا الكامنةُ تصفعُهُم باستمرارِ حياتِنا، إيماناً منّا بعدالةِ قضيتِنا، فثباتُنا وقوتُنا وصمودُنا سيّدُ موقفِنَا.
في العادةِ التاريخُ يمجِّدُ الأموات، يذكُرُهم في صفحاتِهِ بعد وفاتِهِم كأنّهم قوىً خارقة، إلّا في غزةَ، تكتبُ تاريخَهَا بأحيائِها وشهدائِها، بمقاومتِها وصمودِها.. نعم، نكتبُ التاريخَ ونحفظُ تواريخَ وأيامَ بدايةِ الحروبِ الأربعِ على غزةَ كـ (حفظِنا تواريخَ ميلادِنا الأوّلِ)
وهنا أقولُ الأوّلُ؛ لأنَّ في كلِّ حربٍ نُولَدُ من جديد، فأعمارُ غزةَ متشابهةٌ ومتساويةٌ "أربعُ حروبٍ وحصارٌ تجاوزَ الخمسةَ عشرَ عاماً"، نخرجُ دائماً منها أحياءً؛ لأنّنا في حضنِ الوطن، نتنفّسُ القدسَ، ونعتاشُ حُبَّ الأرضِ ما استطعنا إليها سبيلاً، ففلسطينُ خلاصُنا وكبرياؤنا، وهي جنّةُ الدنيا لنا.

