الأسرى..الشحاتيت يفقدُ ذاكرتَهُ ويُعمِينا..وأبو مخ يكشف خيبتنا

10313453_1148981395120913_4507577986352081341_n.jpg

صِدْقاً منذ البداية، لا أعرف كيف أبدأ كلماتي، فأنا لستُ بكاتبٍ عظيم، ولا مُنجِّم أقرأ حركة الكواكب والنجوم، لن أرتّبَ الأحداث، وأمتحن المواقف وأصحابها وفقاً لمَنْ أراه يستحق، إلّا عن استحقاق الأسرى، فهم الحق والعطاء.. القضية والصمود.. زيتون الأرض وملحها، تاريخ فلسطين عبر عقودٍ من الزمن، هم المنسيّون في زمن العولمة، الأحياء في زمنٍ ماتت فيه نخوتنا.

الأسير الفلسطيني منصور الشحاتيت (35 عاماً) قضى منهم (17 عاماً) في سجون الاحتلال الإسرائيلي معظمها في العزل الانفرادي، أُفرِجَ عنه وسط مشهدٍ أبكى رجال الرجال، وأطلقت سلطات الاحتلال سراحه بعد قضاء محكوميته كاملة، خرج إلى عائلته فاقداً للذاكرة.

3.jpg

الأسير الشحاتيت، لو أردنا حساب أيامه في الاعتقال وقبله، نجدها متساوية وإن كانت بفارق عام، لا يهم، فهذا العام هو مزحة التاريخ اللعين، 17 عاماً في سجون الاحتلال تعرّض فيها للتعذيب والسجن الانفرادي، أفقدتهُ عقلَه حتى أنه لم يستطِع التعرُّفَ على والدته ولا أخوانه وأحبابه عند خروجه من السجن.

17 عاماً في السجون، كان كل يوم فيها كفيلٌ بأن يشطب من ذاكرة الأسير الشحاتيت اليوم ما قبل الأسر، حتى تساوت أيام اعتقاله بأيام حريته، وبقيَت ذاكرته بدون عنوان، واكتفى بأن تبقى ملامح وجهه وجسده النحيل بطاقة تعريف له وشاهداً على جُرْم السجّان.

أيام الأسير الشحاتيت جريمة مكتملة الأركان، ارتكبها الاحتلال بحقه باْسمِ حقوق الإنسان ومواثيق الأسرى وقوانين الحروب.. أُمِعنُ النظرَ في صوره بداية اعتقاله "زهرةٌ تجعلك تبتسم لها من وسط حديقةٍ ألوانُها تشكِّل خارطة فلسطين، وعند الإفراج عنه لا تجد سوى زهرة ذبلت من نسياننا لها، تشعر وأن الخوف يسيطر عليه، معذور.. لا يستطيع التعرُّف على أحد، الجميع يقبّله ويهنئه.. يُطلِقون الزغاريد وهو لا يكترث، فالذاكرة نقشت جميع أسمائهم وأشكالهم على جدران السجن وخرج بدونها".

قمة الألم اللامتناهي.. أن تعرف والدته بحالته، وتعي أنه لن يتعرف عليها، وتذهب في كل مرة لزيارته، لا يتحدث معها، وتجلس أمامه تذرف الدموع، وتعود إلى بيتها، وتعيد الكَرّة في كل مرّة، تذهب إلى قدرها، وتكوي جرح قلبها بالنار لتكحل عينيها برؤيته وهي متأكدة أنه لا يعرفها ولن يحدِّثها، وبالكاد يبتسم لها.

17 عاماً في سجون الاحتلال، نريد مثلها وأكثر للكتابة عن معاناة الشحاتيت، التي لن تُسدِل ستارها بعد خروجه من السجن، بل ستبدأ فصولٌ جديدة من المعاناة له ولعائلته التي ستراقبه وهو يشرب السجائر ويكثر شرب القهوة وحيداً كما اعتاد أن يقضيها في السجن.

هي أيام قليلة على حتى أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن الأسير الفلسطيني رشدي أبو مخ، جلست وحيدا محاولا وضع نفسي مكانه، أحاول التفكير فيما حدث معه، صدقا لم أجد كلمات تعبر عن أي شيء، فلا الكلام يفي ولا العبارات تشفي، ولم أجد ما أكتبه سوى بضع سطور أحاول فيها ترجمت ما شاهدت في آخر يوم له في الأسر...

4.jpg
 

أطل برأسه نحو الوطن من خلال نافذة السجن، أمعن النظر في الغيمات السماوية القطنية، ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة ممزوجة بغصة قلبية عندما رسمت الغيمات وجهه قبل خمسة وثلاثين عاما، تمنى فيها أن يصعد نحوها وهو شاب حتى يعانق السماء وينزل مع حبات المطر على أرض دفع ثمنها من عمره خمسة وثلاثين عاما.

عاد إلى سريره في الزنزانة، يسند ظهره على حديدة حفظ تفاصيلها طيلة أعوام سجنه، أغمض عينيه وتاه في خياله، كيف أمضى كل هذه الأعوام بين الجدران، كيف جرت الأيام، لا يعرف هل يعود بالذاكرة للخلف ويستذكر بداية اعتقاله، أم يطلق عنانه لعد الدقائق ورسم صورة الاستقبال لحظة الحرية.

تسابقت الثواني، وعدت الساعات، وجاءت لحظة الحرية، وكانت قمة الوجع، أن تجد بضعة من أحبابك فقط هم من ينتظرونك في الاستقبال، لا حضن أم، ولا عناق أب، ولا زوجة ولا أبناء، يمشي بالكاد بشعره الذي ابيضّ من شدة ظلمة السجن، تجاعيد وجهه رسمت خريطة فلسطين التي سجن لأجلها.

خمسة وثلاثون عاما.. تحتاج إلى مثلها بل وأكثر كتابةً للتعبير عن وجع أسير، سُجِنَ في عهد ثورة أبو إياد، وعنفوان أبو جهاد، وزعامة أبو عمار، وهندسة عياش، وحكمة حبش.. وبعد ثلاثة عقود ونصف، كانت صدمة المفارقة بين ما سُجِنَ في عهده وبين ما أصبح عليه الوطن من تفاهمات في غزة وتنسيق أمني في الضفة، وصفقة قرن تأخذ ما تبقى من القضية.

ابتسم وجلس بهدوء يستقبل المهنئين، يحاول أن يتذكر الأماكن التي تركها طوال فترة السجن، وبعفوية أجاب على إحدى أسئلة الصحفيين :" أنا لم أتحرر.. أنا أنهيت محكوميتي 35 عاما و12 يوم وهذا لا يسمى تحرر، فلم يحررني أحد!"، عفوية نطقها ضرب بها جميع الفصائل بأذرعها العسكرية عرض الحائط، مزق شعارات التنظيمات، وبدد خطابات المسؤولين، ولسان حاله يقول "محدش يحملني جميلة".

الوجهة الأولى للأسير مسقط رأسه وزيارة قبر والدته، وفي حضرة الموت والفراق، يجلس على ركبتيه، يسند رأسه على الشاهد، يحضنه.. يبكي بحرقة، يحدثه بخلجات صدره، يطبق أصابعه عليه غضبا وقهرا، ولا حديث سوى الصمت.. كلمات تتحشرج في عنقه، بالكاد تقدر على التعبير والحديث الممزوج بالدموع "كان من المفروض أن تكون بيننا.. لا أستوعب.. انتظرتني 33 عاما وعاشت على الحلم والأمل بحريتي وزفافي لكنها لم تتحمل معاناة الأسر والفراق والتنقل بين السجون".

الأسير رشدي أبو مخ، خرج بعد أعوام السجن من دفء مَنْ لازموه بالسجن عقودا، إلى برودة الوطن المسروق حيث الصقيع، لا هواء، ولا مطر، خرج ليشعرنا بالخجل، كشف خذلان القيادات بحقهم، وفتح جروح مأساة باقي الأسرى الذين لا تشعر بهم الكلمات ولا ترتيب الحروف، سوى كلمة "سامحونا لتقصيرنا"..