لافرق بين وقاص ومنّة الله

لافرق بين وقاص  ومنّة الله

رام الله الإخباري

 لم يغادر وقاص عامه التاسع بعد، ولم تتجاوز أحلامه النقية الرحلة المدرسية يوم غد إلى حديقة الحيوان، فهناك ستتفتح بين أنامله الأمنيات كالورود، وستتدفق الضحكات كشلال مياه عذبة، فأي حلم لطفل في عامه التاسع أسمى من اقتناص  صورة مع  الأسد الذي يشاهده على التلفاز، وأي جمال يوازي رؤية الغزلان تتراقص من قريب، أو مشاهدة الدب ذو الفراء الكثيف، وأي فرح يوازي قضاء يوم مع الأتراب في الرحلة المدرسية، لم يكف وقص عن طرح الأسئلة، تارة لوالديه، الذين أثلج صدرهم نظرة الفرح البادية على وجه الصغير، ولم يظهروا حنقهم من أسئلته المتكررة،  وتارة أخرى  كان خياله الغض يذهب به بعيدا، فيتخيل نفسه يمتطي ظهر غمامة، أو يحلب ضرع غزالة، أو يتجول في الغابات برفقة الأسود، والدببة، والغزلان، في مشهد اختزلته ذاكرته الغضة من مسلسل كرتوني هو ذخيرته المدخرة من الفرح،  بنقاء الملائكة، حضّر وقاص ملابسه ليوم غد، واستيقظ مطمئنا أنها لا تزال بجوار سريره مرتين في تلك الليلة، وبنظرة فاحصة، بها الكثير من الجدية، والمهنية بدأ بتفقد كل مستلزمات الرحلة، هنا ظرف الشيبس، والسندويشة موجودة أيضا، متمتما في قلبه، لن أكلها لأنني سأستثمر كل دقيقة للفرح، لكن أمي لا تتركني أغادر دونها، وهنا زجاجة المياه، وعلبة الكولا التي قام بتهريبها، خوفا من أن يكتشفها والده الذي يفضل المشروبات الطبيعية حفاظا على أسنانه المتفتحة كالسنابل، قبّل والدته قبل أن يغادر البيت، حاملا معه حقيبة، وقلبا عامرا بالفرح، وحقيبة أخرى من الأحلام التي حان موعد إخراجها اليوم كصندوق العجائب، وأي سحر ذاك الذي يوازي الوقوف أمام الأسد، والتحدث مع الثعلب المكّار، والتشرف بأخذ صورة مع النمر. 


     بينما كانت الأم  تجدلّ شعر منّة الله، كانت الطفلة ذات الأعوام الثمانية تغط في حلم جميل،  به بحيرة، ودواليب طائرة، وفراشات تتراقص بألوانها الزاهية في كل مكان، فتجربة منّة الله مع الفرح لا تعدو حدود ما تشاهده عبر قنوات الأطفال التي ترسم صورة وردية للحدائق العامة، كان مخزون الفرح في قلب منّة الله يكفي لرسم البسمة على الوالدين،  وتذكيرهم بطفولتهم، وانتظارهم للرحلة المدرسية بفارغ الصبر حينام كانوا في عمرها، وأسئلة منّة الله كانت تعيد الأم إلى أيام الطفولة، حيث أن مساحة الفرح تختزل بالتحرر من اللباس المدرسي يوم الرحلة، ومشاركة الصديقات " الأكل والشراب"، والتقلب المستمر ليلا، انتظارا لبزوغ الفجر، للإعلان عن انطلاق قطار الفرحة الكبيرة ممثلة بالرحلة المدرسية، وإيقاظ الولدين وإعلان حالة الطوارئ في البيت استعدادا لطقوس منّة الله في رحلتها الأولى نحو الفرح. 
    بينما كان الأب ينتظر عودة وقاص  ليحدثه عن مغامراته في حديقة الحيوانات، راسما صورة لمدى قدرة الأطفال على المبالغة الصادقة، التي تتداخل بها  الأحلام، بالحقائق، بالتصورات، والاكاذيب المفضوحة والجميلة، وفيما كان يبتسم حينما يتخيل وقاص عائدا  إلى البيت " كشيخ الشباب " منطلقا في سرد مغامراته مع الأسد، وحديثه مع الغزالة، وعلاقته المميزة مع صديقه الحصان، الذي اقترب منه أكثر من صديقه فارس، بدأ جرس الهاتف بالرنين، ليخبر الوالد أن ابنه في العناية المركزة نتيجة قضم يده بالكامل على يد الدب  في حديقة الحيوانات. 


وفيما كانت الأم تنتظر عودة منّة الله بكل اشتياق، محدثة نفسها أنها اشتاقت لصوتها الذي يملأ البيت فرحا، وحبا، وقع عليها كالصاعقة خبر وقوع ابنتها من على إحدى الدواليب المتحركة في إحدى المنتزهات، وأن إرادة الله وحدها هي من أنقذها من موت محقق . 


     تلك ليست مقدمة لقصة تراجيدية تعتمد مبدأ التشويق، إنما هي واقع مأساوي، حدث في فلسطين، الفرق بين الحادثين يقارب الأسبوع،  بينما  لا فرق عمليا في التقصير، وعدم الجدية في احترام حياة المواطنين من قبل المتسببين بالحادثتين، ، فمن يصدّق أن حديقة للحيوان، تعتبر إحدى أبرز وسائل الاستقطاب السياحي لمدينة ما، تفتقر إلى أدنى مقومات الحماية والمتابعة، أليس انتزاع يد طفل، بهذا الشكل المأساوي على يد حيوان مفترس في حديقة الحيوان، ثمنا باهظا للغاية لدق ناقوس الوعي لدينا، وهل علينا أن نقتبس دائما وأبدا اخطاء غيرنا، لكي نتعلم من جديد، وهل من المعقول أن تقع فراشة من بناتنا من على دولاب طائر، لافتقار المكان إلى قواعد السلامة العامة، وهل من المعقول أن نستمع إلى تبريرات لا تقل رعبا عن الجريمة ذاتها حينما يقول احدهم أن الطفل هو الذي يتحمل المسؤولية، كونه اقترب أكثر من اللازم من الدب، وربما نسمع في الأيام القادمة أن منّة الله لم تلتزم بتعليمات السلامة في الدولاب الطائر. 


    إن وجود بنية تحتية مؤهلة، وأماكن ترفيه آمنة لأطفالنا، هي من الحقوق الأساسية للمواطنين، وإن ما حدث مؤخرا مع وقاص ومنّة الله، تعيدني بالذاكرة  لمطلع العام  2013، حينما فقدنا الشابتين  هناء السامري وسماح كنعان غرقا بسبب سوء البنية التحتية خلال إحدى المنخفضات الجوية،  حينما دفعنا ثمنا قاسيا للغاية قبل أن نبدأ باستقاء العبر. 


 أعي تماما حالة الرعب التي تصيب الآباء والأمهات، والنزوع من أجل حماية أطفالهم إلى منعهم من المشاركة في الرحل المدرسية، أو المطالبة بمنعها من الأساس، لكنني لا أرى أن ذلك سيؤدي إلى حل المشكلة، إنما سيجعل منّا رهائن للخوف والفزع. 


     الحل برأيي أن نقف جميعا أمام مسؤولياتنا كمواطنين صالحين، وفاعلين، وأن نطالب بتوفير الخدمات التي نستحق، في ظل المجتمع الذي نريد، وهذا يتطلب منا جميعا أن يكون لنا صوت واضح للمطالبة بتغليظ العقوبة على المتراخين بقضايا تمس حياة أطفالنا، وان نزرع ثقافة المواطنة، والمسؤولية في سلوك القائمين على تلك المرافق، لكي لا نرى في المستقبل القريب أو البعيد، حوادث كتلك التي خطفت الفرحة والحلم، والابتسامة عن ثغر وقاص ومنّة، الذي هم بالأساس أبنائنا جميعا، وأبناء المجتمع، وحصاد ما نقدمه لهم من علم، وتربية، وخدمات.  

رائد الدبعي